"بدون".. رواية الهوية الجنسية الضائعة في زمن مشتعل

بدأ الروائي العماني يونس الأخزمي مشروع كتابة رواية “بدون” الصادرة عن دار عرب بلندن مؤخرا، ببحوث مكثفة عن حالات اضطراب الهوية الجنسية أو “الجندرية” منذ بداية 2017، وقد اضطلع بجهد كبير على كل ما أتيح له حينها من معلومات قبل أن يجلس ويستمع لـ(بطلة/بطل) الرواية الحقيقي في لندن، حيث تعرف على تقارير حالته الصحية، ثم زاوجَ بين ما قرأه وما سمعه منه. وقد بقي الأخزمي بين المراجع والتواصل مع البطل طوال العام 2018، فقد أثرى البحث الكثير من الجانب العلمي عن موضوع الرواية. فحالة البطل وما مر به خلقت لديه رغبة في أن يورط قارئه معه، ويضعه أمام أسئلة وُضِعَ أمامها أيضا. صحيفة “العرب” توقفت معه في هذا الحوار.
تلامس رواية “بدون” مناطق محرمة اجتماعيا، ويندر أن تقترب منها الرواية العربية، لاسيما في الخليج، إلا بالكثير من الحذر والمواربة. وقد سبق الأخزمي إلى ذلك الروائية العمانية بدرية البدري في روايتها “ظل هيرمافروديتوس”.
ويرى الأخزمي أن رواية “بدون” هي إنسانية عموما، وليست لها علاقة بمكان محدد، ولا يعتقد أنها تشغل بال الكتّاب في عُمان تحديدا، فمثل حالتها موجود حتى في الدول المتقدمة. فبطل رواية “بدون” -بحسب الأخزمي- لا يزال يعيش بيننا، ولا يزال يُعاني نتيجة تأخره في الوصول إلى التشخيص المناسب، كان يمكن أن يكون رجلا متكاملا لو عرفت حالته قبل العشرين من العمر. يقول “ما أود قوله أن مثل حالة عُلا قد تكون بيننا ولا نعيرها اهتماما، وهي بسبب الأعراف الممارسة على الفتيات بالخصوص، قد لا تستطيع البوح بشيء، فأنا لو لم أكن أعرف بطلة أو بطل الرواية لما كنت فهمت طبيعة حالتها ومدى تعقيدها. هذه الفئة من البشر نراها دائما والكثير منا يطلق عليها أحكاما مسبقة دون أن يتعب نفسه بالتقصي عن حقيقة وضعها. معظم هؤلاء لا يعيشون ذاتهم، يبقون انطوائيين، يحترقون في داخلهم، أو يتمردون فيصبحون مهرجين وساخطين”.
رجل أم امرأة؟
على عكس سيناريو فيلم The Danish Girl الذي تناول الجنس المتحوّل، نواجه عُلا، بطلة رواية “بدون”، تقف في الجانب الآخر مستشعرة رجلا مضطرب الهوية يسكن أنثاها بهويتها الجنسية، وأنثى تسكن رجولتها، في تفاصيل تكشف بشكل عميق عن تقمص حالتين؛ نصف امرأة، ونصف رجل. هذا الاختيار للمنطقة السردية كان شجاعا، لاسيما في مآلاته الفيسيولوجية عبر التدخل الطبي.
وفي سؤال عن هل سيشكل هذا التناول فارقا لو اختار الأخزمي أن يتحول علي إلى عُلا وليس العكس؟ حيث اختار في روايته أن تتحول الأنوثة الضعيفة إلى ذكورة في مجتمع ذكوري، فلمَ لمْ يختر أن تتحول الذكورة للأنوثة؟
يجيب “لم أكن لأتعب نفسي وأستهلك حوالي عامين من وقتي في كتابة رواية تتحدث عن التحول الجنسي ‘التقليدي’ الذي نسمع ونقرأ عنه. حالة عُلا من النوع النادر وجوده علميا، في العادة هناك تحولات من ذكر لأنثى، لكن عُلا حالتها الطبية استثنائية ومعقدة إلى حد كبير، فهي وإن كانت ولدت بشكل خارجي مشوّه إلا أنها كانت تشعر بأنها ذكر في كل شيء آخر، منذ الولادة. الأمر الذي لا يتكرر في كل أو معظم حالات اضطراب الهوية الجنسية هو وجود رغبة جنسية ذكورية عند عُلا منذ وقت مبكر تجاه الإناث”.
حالة استثنائية
يضيف “كتبت هذه الرواية لإيماني أن حالة البطلة استثنائية بالفعل. معظم التحولات التي نسمعها هي تحولات تمت بشكل اختياري. عُلا رجل منذ الولادة، بداخلها جهاز تناسلي ذكوري طبيعي مكتمل لكنه بقي مخبئا، ولذا ففي كل مراحل حياتها لم تشعر سوى أنها رجل وأنها تحب فقط الإناث. حتى حالات التحول القليلة من الأنثى للذكر ارتبطت بإجراء عمليات إزالة الجهاز التناسلي للأنثى و’زرع’ أعضاء بلاستيكية أو تجميلية، قلة تلجأ إلى اقتطاع أجزاء من لحم الجسد (في أماكن معينة) لتشابه تركيبتها بلحمة القضيب، ولكن يبقى القضيب صغيرا وغير قادر على القيام بواجباته المعتادة حتى مع استخدام الدعامات والمضخات”.
ذهب بعض قرّاء رواية “بدون” إلى أن الأخزمي كان مخلصا للواقعية ولم يعمل خياله في الكثير من أحداثها، فرغم كونه روائيا عمانيا إلا أن غالبية مناخات الرواية تدور بين اليمن والسعودية وبريطانيا، وهناك جزء يسير منها في عُمان. حيث كان من الممكن -بحسب رأيهم- أن يجعل بطله “علا–علي” من أهل ظفار بدل اليمن المشتعلة بالثورة، الأمر الذي يجعل الأحداث متشابهة في سياق ثوري واحد مع “عبدالرحمن علوان” والد (البطل/البطلة) في تفاصيله الثورية وخروجه للبحرين ثم السعودية. ويبدو أن هذا الهاجس في البناء كان يراود الأخزمي، فقد كتب تنبيها في بداية الرواية يقول إنها “ليست جميعها حقيقية”. فلماذا لمْ يسحب الحدث من اليمن إلى عُمان؟
عن ذلك يقول الأخزمي “أحداث الرواية واقعية، ولكن أيضا الحديث هنا عن فترة زمنية معينة (الخمسينات من القرن الماضي) عند خروج الأب من عدن بسبب الاحتلال البريطاني لها في الفترة (1938–1967)، وفيها كانت الأحداث مختلفة سواء في اليمن وتحديدا عدن، وأيضا في جنوب عُمان. وفي كل الأحوال فإن للأمر علاقة مهمة من حيث تأثير المقارنة بين الوضع الاجتماعي والصحي والتعليمي ومستويات النظافة وغيرها من أمور متطورة في الخُبر بتلك الموجودة في صنعاء، البطلة تُغذي من خلال عقد تلك المقارنة رغبتها في الخروج من صنعاء للندن”.
ويتابع “ما أود الإشارة إليه كذلك أن من هم في مثل حالة عُلا ولدوا ولا يزالون يولدون متشابهين في الحالة في كل أنحاء العالم، سواء في مسقط أو القاهرة أو لندن أو غيرها من المدن، لكن التعامل مع مثل تلك الحالات عند ولادة عُلا لم يكن بالشكل المطلوب نظرا لنقص المعرفة بحالتها، ولم يكن الوضع ليكون أفضل حتى لو ولدت في مناطق أخرى من عالمنا العربي، ومع ذلك فقد كان المجال الصحي في الخُبر الأكثر تقدما عن غيره في المنطقة. بالإضافة إلى أن حالة البطلة كانت معقدة بالفعل”.
مناطق محرمة

في حديثنا معه حول اتهام أبطال الرواية لليمنيين بالكسل، وهل هذا عداء تاريخي بين العمانيين واليمنيين يحاول أن يصفيه عبر أبطاله؟ أم أنه توصيف حقيقي محايد؟ ثم ألم يكن يخشى من ردود الفعل اليمنية جراء هذا الاتهام؟
يعلّق الأخزمي عن ذلك “لا يوجد اتهام، وما ذكرته ليس أكثر مما يردده اليمنيون عن أنفسهم حين يتحدثون عن ‘القات’ وتأثير جلسات ‘التخزين’ التي تستهلك الكثير من وقتهم على قيامهم بأمور أفضل، كما أن من يقال في الرواية على لسان شخصياتها هي لتلك الشخصيات وليس للكاتب، وفي ذلك فرق. كما لا يوجد أي عداء أعرفه بين الشعبين العمُاني واليمني. اليمن بلد عظيم، ذو تاريخ شاسع لا نهاية له، واليمنيون عبر التاريخ كانوا ولا يزالون أمة عظيمة وأصحاب حضارات معروفة، وصفها جاء واضحا في متون الرواية، والبشر من اليمن مع سقوط سد مأرب انتشروا فعمّروا الأرض.
أما بخصوص ردود الفعل اليمنية فلا أرى من مبرر لردود أفعال عكسية. في كل الأحوال فالكثير مما ينطبق على اليمنيين ينطبق على غيرهم من أبناء الدول العربية بصفة عامة، فالدول العربية بشكل عام لا تزال مستهلكة غير منتجة تعيش في حالة كسل بسبب وجود البترول في الغالب. قيام البناء ورصف الطرق والتقدم في مستوى الخدمات لا تعني بالضرورة زيادة الوعي الثقافي المجتمعي والخروج من الممارسات الحياتية القديمة المكتسبة التي تحد من الكثير من الحريات المهمة لتطور المجتمعات المدنية، والأكثر من ذلك أنها تحد من مستويات الإبداع اللازم لتطور تلك المجتمعات”.
ويرى الأخزمي أن الكثير من المسلمات والاعتقادات القديمة التي عفى عليها الزمن لا تزال موجودة، وقد ساهمت -ولا تزال- في تخلف العديد من المجتمعات. يقول “هناك مواضيع هامة للكتابة الروائية، لكنها مهمشة لأنها تدخل في ما يُسمى بالمناطق الممنوعة أو المحرمة أو الحمراء. الأمور تتغير لا محاله، لكن بإمكان فعل ذلك سريعا لو تقبلنا مبدى التغيير بسرعة.
الربيع العربي لم يكتمل بعد، لكن ما حدث ساهم وبلا شكّ في إحداث الكثير من التغيير في المفاهيم والاعتبارات، والمزيد من الجهد لا يزال مطلوبا. حالات تغيير الجنس موجودة في مجتمعاتنا، نسمع ونقرأ عنها، في مصر وحتى في اليمن تُجرى مثل تلك العمليات الآن. ما أتمناه هو اعتبار الحالات المتحولة بسبب الأوضاع الطبية حالات طبيعية جدا”.