انتهى زمن اليمين واليسار وجاء زمن الشعبوية

تطرح الشعبوية إشكالية جديدة على الواقع السياسي الغربي، فبعد أن كان المشهد منذ نهاية القرن التاسع عشر قائما على فصل أيديولوجي بين قوى اليمين وقوى اليسار، من خلال أحزاب تقليدية لها مرجعيتها الفكرية والأيديولوجية، وتصور خاص لما ينبغي أن تكون عليه الحياة السياسية والاجتماعية والبرامج الاقتصادية، ظهرت في الأعوام الأخيرة حركات تبحث عن سلطة مستمدة من الشعب مباشرة، مستغلة تراجع الأحزاب التقليدية، فلم يعد يحول بينها وبين تصدرها المشهد غير النخب التكنوقراطية، التي تحوّلت هي نفسها إلى شعبوية تقنية.
لا يزال مصطلح الشعبوية محل جدل بين المشتغلين بالسياسة والمشتغلين بالفكر، كظاهرة اجتماعية وأيديولوجية وسياسية، خاصة بعد بروز فئة أخرى أطلق عليها كريستوفر بيكرتون، الأستاذ بجامعة كامبردج، مصطلح “الشعبوية التقنية”.
والمعلوم أن الشعبوية تحتوي على عنصرين، عنصر استدلالي مستوحى من الطريقة التي يعبّر بها بعض السياسيين عن أفكارهم، ولاسيّما الخطاب الذي يعتمدونه ليُضْفوا على أنفسهم شرعية من جهة النفوذ والحكم، وغالبا ما تستعمل الشعبوية في هذا المستوى مفهوم الشعب لتدعيم سلطة شخصية سياسية، وهذا الخطاب حول فكرة الشعب يخلق فصلا بين الشعب والنخبة السياسية ويعتبره حدّا أساسيا.
أما العنصر الثاني فيتمثل في البعد التنظيمي للشعبوية، أي الكيفية التي تبني بواسطتها الأحزابُ والحركاتُ هياكلَها السياسية، وغالبا ما تكون بشَخصنة السلطة، حيث تسعى إلى خلق علاقة مباشرة بين شخصية سياسية ومسانديها، أي الجمهور، وهي علاقة أكثر شخصنة مما كان سائدا في الأحزاب السياسية التقليدية، حين كان الحزب يتموقع بين مسيرة الزعيم والجمهور. ينجم عن تلك العلاقة الشخصية نزوع إلى استراتيجيات ديمقراطية استفتائية، قريبة من البيعة عندنا. فإذا وضعنا البعدين الاستدلالي والتنظيمي أمكن لنا أن نفهم ما تمثله الشعبوية.
نهاية اليمين واليسار
لفهم نشوء ظاهرة الشعبوية في أوروبا اليوم، ينبغي دراسة تراجع نظام تمثيل الأحزاب على المستوى الوطني، لأن الشعبوية لا تستند إلى مرجعية أيديولوجية سياسية بقدر ما تبحث عن سلطة مستمدة من الشعب في مجمله.
ما يعني أنها تجد جذورها في هذا الانحدار الذي حصل على المستوى الداخلي، حتى وإن كان ثمة تركيز على الصعيد الأوروبي. وفي غياب الأحزاب التقليدية أو تراجعها وضعفها لم يعد أمام الشعبوية غير التكنوقراط، الذين يحملون هم أيضا خطابا يتمثل الخطاب الشعبوي، الذي لا يؤمن بالأحزاب، بل يزعم أنه يستمد شرعيته من الشعب.
الشعبوية أعراض فردانية متنامية في ظل انحسار أشكال التنظيم والتمثيل المشتركة، لأن دعوة الشعب هي دعوة إلى شيء مجرّد
إن الحقل السياسي التقليدي الذي فرض نفسه خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حددته بعض التقاليد السياسية، الأيديولوجية منها على وجه الخصوص.
ثم صار اليمين واليسار القطبين اللذين يهيكلان ذلك الحقل السياسي، ولأسباب عديدة صار الفضاء السياسي في أوروبا اليوم حكرا تقريبا على “الشعبوية التكنوقراطية”، فلم يعد ثمة يسار ويمين بل نابت عنهما الشعبوية من جهة، كتعبير عن خطاب يستمد شرعيته من الشعب، والتكنوقرواطيا من جهة أخرى كتعبير عن سلطة التقنيين والخبراء وأهل المعرفة، تحيل بدورها على تصور إبستيمي للسلطة الديمقراطية.
ولو أن الحقل السياسي التقليدي لم يزُل تماما، ولكن علاقته بهذا الحقل الجديد “الشعبوي التكنوقراطي” باتت معقّدة، ما يوحي في بعض الحالات بأن خطاب اليمين واليسار لم يعد يجد آذانا صاغية. وهو ما تؤكده الحركات والأحزاب التي تمثل الصيغ الأكثر نقاء في الشعبوية التكنوقراطية، فهي لا تنفك تقول وتعيد إن اليمين واليسار لم يعد لهما معنى، وتقدم نفسها كتعبير عن سلطة الشعب أو سلطة الخبراء.
يلاحظ كريستوفر بيكرتون أن تآكل الحقل الأيديولوجي التقليدي معقَّد، ولا بدّ من التوسل ببعدين خارجيين لفهمه وتفسيره، يتمثل البعد الأول في فتح الأسواق الوطنية، والمنافسة الشرسة التي صعّبت عمل يسار تقليدي يُفترض أن يسيطر على الحدود الوطنية لضمان حياة اقتصادية يجد فيها المواطن راحته.
أما البعد الثاني فهو جيوسياسي، حيث أن فكرة اليمين واليسار في القرن العشرين قامت على النزاع بين مختلف الأنظمة، نزاعا كان سببا من الأسباب الجوهرية لقيام الحرب الباردة. فلما انتهت هذه الحرب، لم يكن ثمة بديل لمجتمع قائم على علاقات السوق، ما جعل الصراع التقليدي بين يمين ويسار غير ذي معنى. أضف إلى ذلك أن الطبقة العمالية وتمثيلياتها وأشكالها التنظيمية، النقابية بخاصة، شهدت تراجعا مشهودا، وضعف وزن ذلك النموذج الهيكلي الذي يسمح للنقابات بأداء دور في القرارات التي تتخذها الحكومات الليبرالية، خاصة تلك التي تتعلق بالرهانات الاقتصادية الصغرى.
ولو حللنا هذا المصطلح الجديد الذي تشكل عبر أوروبا منذ مطلع الألفية، لوجدنا أنه يتكون من الشعب في مجمله، دون تحديد واضح، ويتبدى ولو بصورة تجريدية كخلَف لفاعل ملموس هو الطبقة العمالية. ويتكون أيضا من الخبرة التقنية، والمعرفة وسلطة التكنوقراط، وتبدو تجريدية هي أيضا، ما يجعل الحقل السياسي الجديد عصيا على التحديد.
أنواع الشعبوية
كان بيكرتون قد وضع برفقة زميله كارلو إنفرنيتسي أتشيتّي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيويورك، تصنيفا ميّز فيه ثلاث حركات نموذجية لثلاثة أنواع من الشعبوية التقنية. الأولى هي حزب العمال البريطاني ما بين 1997 و2010، فقد تبدّت الشعبوية التقنية في تغيير حزب سياسي صار يعرف بحزب العمال الجديد.
والثانية هي حركة النجوم الخمس في إيطاليا بقيادة بيبي غريلّو في بدايته، وتمثل الشعبوية التقنية للقاعدة والمساندين، ما يعني أن المناضلين يحملون معرفة خاصّة، ذات أهمية سياسية، حيث لا يُنظر إلى المواطن العادي كمواطن، بل كفرد يعرف شيئا ما، وله قدرات إدراك خاصة.
والثالثة، حركة إلى الأمام لإيمانويل ماكرون، وتمثل الشعبوية التقنية للنخبة، وظهور قائد يطرح حلولا تترجم رغبات الشعب إلى أفعال، وتلتقي مع “أميركا أولا” التي رفعها ترامب شعارا لحملته، فهي أيضا تشكل نوعا من الشعبوية التقنية إذ تتميز بالعلاقة المباشرة مع الشعب، والوعد بتقديم حلول لكل ما لم يستطع السابقون حلّه. يمكن أن نضيف إليها ما عرف بالشعبوية الجديدة في أميركا اللاتينية مطلعَ التسعينات (كارلوس منعم في الأرجنتين وفوجيموري في بيرو) التي كانت تربط الشعبوية بالليبرالية الجديدة.
ولو نظرنا اليوم إلى الحياة السياسية المنظَّمة حول تمثيلية أجهزة وسيطة هي الأحزاب السياسية، وكذلك كل الهويات الاجتماعية التي تنظمها هي أيضا قواعد تفاعل في ما بينها، فإن الشعبوية تمثل علامة من علامات اختفاء تلك القدرة على تنظيم المجتمع حول صراع الفاعلين الاجتماعيين.
إنها أعراض فردانية متنامية داخل المجتمع، وانحسار لأشكال التنظيم والتمثيل المشتركة، لأن دعوة الشعب هي دعوة إلى شيء مجرّد، إذ لم تعد ثمة جدلية بين المحسوس والمجرّد، في غياب المرجعية التقليدية التي تعلن فيها التنظيمات عن هوية واضحة لها علاقة بالشعب، في إطار التعددية، بل نابت عنها تجريدية دون شكل آخر محسوس. وبذلك صارت الشعبوية علامة اختفاء عنصر أساس في الحياة السياسية، هو استعمال فاعلين بعينهم لمفاهيم كونية.
الرهان الشعبوي
في موازاة ذلك يكثر الحديث عن شعبوية يسار، كظاهرة يمكن أن تكون هامة من وجهة نظر استراتيجية، غير أن بيكرتون يرى في هذه التسمية تناقضا، لأن تقاليد اليسار السياسية تستمد جذورها من تنظيم المجتمع حول حركة أفراد، لها غايات وأهداف، وعلاقات في ما بينها، وموقع في مجمل المجتمع. أي أنها بنية ملموسة لما هو اجتماعي، فإذا تصورنا الشعبوية كطريقة لحشد ملمح السياسة العام (تجريدية الشعب) دون الرجوع إلى المحسوس، فإن الدخول في شعبوية يسار عبارة عن انخراط في سياسة تعميم لا يمكن أن تقدم إجابة عن أمثلة نزاع ملموس أو أسئلة سياسية ملموسة، فما هي استراتيجيا شعبوية اليسار لحل أزمة اقتصادية مثلا؟
لقد رأينا في تجربتي بوديموس الإسبانية وسيريزا اليونانية كيف أن الانخراط في السياسة يفقد الحركة ملمحها الشعبوي، إذ بدأت مشاكلهما عند الوصول إلى الحكم، حيث اصطدمت المنطلقات الأيديولوجية التقليدية عن الصراع الطبقي التي تحركهما بواقع جديد لا يلتقي فيه الشعب بالشعبوية.
كذلك الرهان الشعبوي للبريكست الذي آل مصيره في نهاية الأمر بين يدي اليمين، فقد بدا واضحا أن دعوة الشعب إلى التجنّد لقضية ما لا تكفي لتحديد القرارات الضرورية لتحقيق الغاية المنشودة.في كتاب “الشعبويات”، يقول جان بول ريو “لا يمكن اتخاذ موقف إزاء مسائل محسوسة في الحياة السياسية، لأن ذلك يستلزم تقليدا متأصلا، له مبادئ معيارية محددة، تسمح بالحسم في ما ينبغي القيام به عمليّا، خاصة في مسائل الاقتصاد السياسي، نقطة ضعف اليسار منذ نحو نصف قرن، دون أن يكون ثمة بديل للعولمة”.