انتفاضة متأخرة في مصر ضد شبكات فساد متشعبة

أعلنت الحكومة المصرية عن توجه وصفه البعض بالمتأخر، للتصدي لمظاهر الفساد في ما يتعلق بمنظومة الدعم، وفعلت الأجهزة الرقابية من آلياتها، لكن الأمر لا يخلو من تعقيدات إدارية وثغرات قانونية.
القاهرة - أظهر التصعيد الحكومي في مصر ضد وقائع فساد في جهات مختلفة مرتبطة بمنظومة الدعم أخيرا، وجود توجه قوي داخل السلطة لتكريس هيبة الدولة وتصويب مسار المساعدات ولو دخلت في صدام مباشر مع شرائح مجتمعية، وبدا ذلك واضحا في تصريحات رئيس الحكومة مصطفى مدبولي بأن الدولة لن تتراجع عن حقها من الذين يلتفون على القانون للحصول على مزايا لا تخصهم.
وتأخرت اليقظة الحكومية ضد الفساد، وقاد غياب الحسم المبكر إلى انحراف المساعدات التي تقدمها الدولة لسكان العشوائيات الذين انتقلوا للعيش في مناطق راقية، أو ذوي الإعاقة ممن يحصلون على سيارات مدعومة، أو الشريحة التي تلتف على مخالفات البناء وتقنن وضعها بسرقة التيار الكهربائي لتمنح لنفسها الحق في تملك الوحدة السكنية بالسرقة.
وعقد رئيس الحكومة اجتماعا موسعا، مؤخرا مع المحافظين على مستوى الجمهورية، لوضع حد للخروقات وانحراف المساعدات وكلّف باتخاذ إجراءات صارمة ضد المخالفين، ومحاسبتهم، واسترداد حق الدولة منهم، مهما كان نوع المخالفة، وأن ذلك أولوية قصوى خلال الفترة المقبلة مع إبلاغه شخصيا بنتائج الحملات الرقابية المنوط بها تنفيذ هذا التكليف.
وأبدى مدبولي غضبه من امتناع الكثير من أصحاب الوحدات السكنية الذين حصلوا عليها نظير نقلهم من المناطق العشوائية، دفع حق الدولة شهريا، بمبلغ رمزي مخصص لصيانة هذه الوحدات، مع أنهم تحصلوا عليها مجانا، في حين أنفقت الدولة عليها مبالغ باهظة لبناء هذه الوحدات وتغيير حياة أصحابها، من العشوائية إلى التمدن والحياة الكريمة.
وتقرر سحب جميع الوحدات السكنية التي امتنع أصحابها عن دفع حق الدولة، فيما أعلنت وزارة التنمية المحلية أن إجمالي الوحدات المسحوبة في أيام قليلة تجاوز الثلاثة آلاف شقة، وسيتم الاستمرار في هذا التوجه إلى حين تحصيل الدولة حقوقها، ما يعني طرد السكان من الوحدات لأنهم حصلوا عليها مجانا، ويرفضون الرسوم الشهرية الرمزية.
ويبلغ سعر الوحدة السكنية نحو المليون جنيه (حوالي 20 ألف دولار) تكفلت الدولة ببنائها على نفقتها الخاصة، مقابل أن كل أسرة ترفض دفع بضعة جنيهات شهريا، وهذا لن يستمر تحت أي ظرف، وسيتم تكريس هيبة الدولة واسترداد حقها، دون تهاون أو تقصير.
وانتفضت الحكومة ضد الخروقات التي تحدث في ملف سيارات المعاقين، المدعومة من الدولة، ويتحصل عليها أشخاص ليسوا من ذوي الاحتياجات الخاصة بمساعدة موظفين، حيث كلّف رئيس الحكومة بإجراء حصر شامل لهذه السيارات على مستوى الجمهورية ومراجعة أصحابها والتأكد من كونهم معاقين أم لا، ودون ذلك يتم سحب السيارة وتحصيل حق الدولة بنفس القيمة التي تحملتها.
وجاءت المواجهة الثالثة، والأكثر خشونة، مع سرقات الكهرباء في ذروة بحث الحكومة عن حل لأزمة انقطاع التيار وتخفيف الأحمال، وتبين وجود الآلاف من المواطنين يسرقون التيار دون دفع أي مقابل للدولة، تحت غفلة أو بمساعدة من موظفين محليين، ما قررت معه الحكومة حرمان أي سارق من خدمات الدولة أو الدعم، ودفع ما عليه من مستحقات على نحو عاجل.
وصعّدت الأجهزة الرقابية تحركاتها ضد ما يسمى “مافيا سرقات الدعم”، سواء نقدية أو عينية، بالتوازي مع سعي الحكومة لترشيد الإنفاق على منظومة الدعم إلى الحد الأدنى واقتصارها على الفقراء فقط، وتبين أن هناك موظفين يساعدون أشخاصا غير مستحقين للحصول على مساعدات البسطاء بمستندات مزيفة ويصرفون مبالغ مالية شهرية، بشكل أظهر عمق الفساد بالجهاز الإداري.
إقصاء المزورين من منظومة الدعم وإدخال آخرين مستحقين يزيد المكاسب السياسية للحكومة، ويوسع قاعدة الحماية الاجتماعية
وقوبلت تحركات الحكومة ضد الفساد بترحيب من شرائح مجتمعية ودوائر سياسية واسعة، وعكست وجود مسؤولين في مواقع مختلفة من الضروري قصقصة أجنحتهم ومحاسبتهم طالما يمنحون غير المستحقين مبالغ مالية ومساعدات ضخمة وامتيازات وإعفاءات، في حين توجد شريحة ضخمة من الفقراء لا تجد الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
وتصطدم الحرب على الفساد في مصر بجملة من التعقيدات الإدارية والثغرات القانونية، إضافة إلى وجود الكثير من شبكات العلاقات من موظفين ومسؤولين يجيدون استغلال مناصبهم في إدخال أعداد كبيرة ضمن منظومة الدعم بالتزوير، ما دفع الحكومة إلى الاستعانة بالجهات الرقابية والأمنية لمساعدة حكام المحافظات – الأقاليم على تطهير الجهاز الإداري من الفاسدين.
وظهر عمق التحايل في اكتشاف أفراد بأعداد ضخمة يتحصلون على مقابل نقدي كل شهر بدعوى أنهم بسطاء، والمفاجأة أن بعضهم يمتلك وحدة سكنية ومحلا تجاريا وسيارة، وتم إدراج أسمائهم كفقراء، في ذروة بحث الحكومة عن مخصصات مالية وسط أزمة اقتصادية طاحنة، لتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لترويض غضب البسطاء ضد سوء المعيشة.
وأثارت الانتفاضة الحكومية ضد سارقي الدعم والمساعدات، مخاوف بعض البسطاء من منطلق أن التحرك قد ينتج عنه قرارات خشنة تدفع الدولة إلى إعادة النظر في المنظومة كليا، مع أن السلطة تعهدت بالتوسع في وقف السرقات لحماية حقوق الفقراء.
ويحق للحكومة وقف صرف الدعم النقدي أو العيني حسب المراجعات الدورية لظروف المستحقين، وإذا تغيرت ظروف الفقير يصدر قرار بخفض قيمة الدعم أو إيقافه، لكن معضلة الحكومة أنها لم تبدد مخاوف الفقراء بشأن الانتفاضة الأخيرة ضد سرقات الدعم، لغلق الباب أمام خصوم السلطة الذين يزعمون وجود خطط مشبوهة يجري إعدادها تحت غطاء مواجهة السرقات.
الدولة المصرية محقة في حربها ضد الفساد المرتبط بمنظومة الدعم عموما، والذي يساء استغلاله رغم الظروف الاقتصادية الصعبة
وجزء من الأزمة، أن البعض ممن يتحصلون على الدعم تعودوا على الاتكال والاعتماد على الحكومة لتسيير شؤون حياتهم، وأصبح بالنسبة لهم حقا مجتمعيا مكتسبا لا يجوز الاقتراب منه تحت أي ظرف، مهما كان يعج بالسرقات، انطلاقا من أن الأموال المقدمة للبسطاء إرث يرتقي ليكون خطا أحمر، وهي نظرة تتحفظ عليها السلطة وتتمسك بتصويب مسار الدعم كليا.
ويرى مراقبون أن الدولة المصرية محقة في حربها ضد الفساد المرتبط بمنظومة الدعم عموما، والذي يساء استغلاله رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، ويجب أن تتحرك الحكومة في هذا الملف بحسابات دقيقة لأن الظرف السياسي لا يحتمل المزيد من القرارات الخشنة وسط منغصات تخيم على الملايين من الناس لعدم القدرة على سد احتياجاتهم الأساسية.
وأكد الباحث المتخصص في شؤون الاقتصاد السياسي كريم العمدة أن الحكومة المصرية لن تتخلى عن دعم الفقراء مهما كانت هناك سرقات، ولا ترغب أن يتدخل خصومها في علاقتها بالبسطاء، وأن الحرب الأخيرة ضد الفساد مدعومة بغطاء شعبي لأن شبكات التزوير أصابت الناس بمرارة من عمق المخالفات التي تحدث.
وأضاف لـ”العرب” أن إقصاء المزورين من منظومة الدعم وإدخال آخرين مستحقين يزيد المكاسب السياسية للحكومة، ويوسع قاعدة الحماية الاجتماعية، ولم تعد هناك رفاهية من الوقت للتأخر عن وضع قواعد صارمة تمنع سرقات الدعم ومحاسبة المتورطين، مستبعدا أن يكون التحرك في هذا الملف معبرا عن تآمر خفي ضد الفقراء كما يسوق بعض المعارضين.
ونجح الرئيس عبدالفتاح السيسي في تكوين قاعدة شعبية عند فئة مجتمعية تتشكل من البسطاء يصل عددهم إلى نحو 60 مليون مواطن، ويصر على حمايتهم عبر المساعدات، وبالتالي من المستبعد أن تكون الانتفاضة ضد شبكات الفساد مقدمة لتقليص فاتورة الدعم خشية أن يخسر النظام المكاسب السياسية التي تحققت من توسيع مظلة الحماية الاجتماعية.