الوساطة العائلية آلية تحفظ التماسك الأسري في تونس

أصبح التعرف على مفاهيم الإرشاد والوساطة والمصالح العائلي في تونس وإثرائها ضرورة ملحة أمام زيادة حالات العنف داخل الأسر، فمشروع قانون الوساطة العائلية الذي يهدف إلى إحداث آلية لمكافحة الخلافات الأسرية بشتى أنواعها والحد من تفاقمها، يمكن أن يساهم في ترميم التفكك الأسري وحل النزاعات، وذلك بمساعدة مختصين اجتماعيين ونفسانيين يتم تكوينهم في الغرض.
كشفت وزيرة المرأة والأسرة وكبار السن التونسية إيمان الزهراني هويمل أن عدد المكالمات التي وردت على الخط الأخضر الخاص بالعنف وسط العائلات بمختلف أنواعه بلغت 13.500 ألف إشعار، منهم 3500 إبلاغ عنف مسلط ضد النساء سنويا، مشيرة إلى أن ذلك يدق ناقوس خطر حقيقي يحدّق بالتونسيات.
واعتبرت أن التماسك العائلي مهم للغاية، لاسيما في ظل ما يعيشه المجتمع التونسي من تغيرات سلبية داخل الأسرة، تترجمها زيادة حالات التعنيف الأسري جراء غلاء المعيشة الذي عرف نسقا تصاعديا سريعا لأسباب سياسية غذتها الأزمة الصحية العالمية.
وترى أن ضبط آلية موحدة للنهوض بالأسرة ودعم استقرارها أصبح ضرورة قصوى بالنظر إلى تفاقم العديد من الظواهر الخطيرة التي أصبحت تهدد الأسر التونسية مثل الطلاق والبطالة والعنف والهجرة غير الشرعية والتسول والتشرد والسلوكات المحفوفة بالمخاطر.
ولدى إشرافها مؤخرا على ورشة حول “دور الإرشاد والوساطة العائلية في النهوض بالأسرة ودعم استقرارها”، انعقدت بالمعهد العالي لإطارات الطفولة بقرطاج درمش، أكدت الوزيرة على أن هذا المشروع يهدف بالأساس إلى مكافحة التفكّك الأسري، إذ يسمح بفض النزاعات والخلافات بين مختلف أفراد الأسرة في جميع المجالات على غرار المالية والعلائقية والزوجية من قبل مختصين يتم تكوينهم في الغرض.
وتضم مؤسسة الوساطة العائلية قائمة من الوسطاء العائليين الذين تم اختيارهم من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة العدل لتتم الاستعانة بهم بطلب من القاضي أو من الأسرة في حال حدوث نزاع بين أفراد الأسرة سواء تعلق بالمشكلات المالية أو بالإرث أو غير ذلك.
ونقلت تقارير إعلامية محلية عن رئيس مصلحة الوساطة العائلية بالهيئة العامة للنهوض الاجتماعي بالإدارة العامة للوقاية والنهوض الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية الذهبي الشمعاوي، أن هناك نحو 83 مصالحا عائليا منضويا تحت وزارة الشؤون الاجتماعية يتكونون من 58 أخصائيا اجتماعيا و25 أخصائيا نفسانيا، موزعين بمختلف محافظات البلاد.
ولفت إلى أن هؤلاء المصلحين تمكنوا خلال العام الماضي من تأمين 1800 عملية مصالحة قضائية ومصالحة الاتفاقية.
وأوضح الدكتور في علم الاجتماع الطيب الطويلي أن “الأخصائي الاجتماعي يشتغل ضمن مؤسسات ترجع بالنظر للوزارات المكلفة بالشؤون الاجتماعية والمرأة والطفولة والأسرة وكبار السن، ويتدخل في كل المشاكل التي تؤثر على النسيج الاجتماعي والأسري دون استثناء من طلاق وإنجاب خارج إطار الزواج وغيرها من المشاكل التي من شأنها أن تؤدي إلى التفكك الاجتماعي”.
وشدد الطويلي في حديثه لـ”العرب” على أهمية دور المرشد والأخصائي الاجتماعي في تأطير العلاقات الزوجية والأسرية التي تعاني من مشكلات.
وأضاف أن “أول أدوار الأخصائي الاجتماعي تتمثل في تشخيص المشكلات الأسرية، ومن ثمّ القيام بالوساطة العائلية ومحاولة إصلاح ذات البين وتقريب وجهات النظر عبر الإرشاد والتوسط من خلال التشديد على النهوض بالأسرة ودعم استقرارها، إلى جانب التوجيه ومرافقة الحالات حسب خصوصياتها”.
وتابع “يسهم الأخصائي في مرافقة الزوجة التي تكابد العنف الزوجي المادي أو المعنوي، أو الطفل الذي أحدثت الخلافات الأسرية لديه تأثيرات نفسية أو خلفت له مشكلات على مستوى الاندماج الاجتماعي”، مشيرا إلى أنه “يساهم كذلك في حماية المرأة المعنّفة عبر المساعدة أحيانا في مرافقة الزوجة نحو تكوين عائلة نواتية بعيدا عن الأب صاحب السلوكات العنيفة والعدوانية”.
التفكك يظهر مع الطفل
لفتت وزيرة المرأة التونسية في حديثها عن المكالمات التي وردت حول حالات العنف إلى أن هناك 6800 إشعار وصلهم حول العنف المسلط على الأطفال.
وترى نعيمة بوضياف مرافقة تربوية لذوي الاحتياجات الخاصة أن “وجود وسيط أمر غاية في الأهمية، إذ يكمن دوره في الربط بين الطفل ومعنفه بوصف هذا الأخير سواء الأم أو أي فرد آخر من العائلة لديه خلل يجعله يعنف هذا الطفل”.
وفسرت بوضياف وهي خريجة المعهد العالي لإطارات الطفولة بقرطاج درمش، أن “الوسيط الاجتماعي أو النفسي الموجه للطفل سيكون موجها بالقدر ذاته للمعنِف، لأن هذا العنف لم يأت من فراغ بل نتيجة عدة عوامل من بينها الضغوط النفسية التي يعاني منها الأب أو الأم في العمل، لكن في حال وجود طرف ثالث يمكنه التفطن لذلك والمساهمة في معالجة هذا الخلل”.
وأكدت في حديثها لـ”العرب” أن “مشروع الوساطة العائلية صار أمرا ملحا اليوم لتيسير حياة الأفراد، وللوقوف على أسباب العنف وأشكاله”، مشيرة إلى أن “العنف سواء المسلط على الطفل أو أحد أفراد عائلته لاسيما الأم تنتج عنه عدة عواقب تقف في طريق تواصل الابن مع أصدقائه في الشارع والمدرسة بشكل طبيعي، حيث تتكون لديه مجموعة من المخاوف تجعله كتلة من الاضطرابات النفسية، وفريسة سهلة للتنمر عليه وإقصائه”.
وختمت بالقول إن “الوسيط ضروري لأن بعض أولياء الأمور يرفضون الاعتراف بما يعايشونه من تفكك ونزاعات، حتى أنهم أحيانا يعطلون عمل المكلف بحماية الطفولة”.
المساهمة في إصلاح الأسرة
تكشف شهادات نساء تعرّضن للعنف الأسري أن النسب تفوق بكثير المسجلة، فرغم ارتفاع عدد حالات الطلاق وإشعارات العنف الواردة على الخط الأخضر للوزارة، إلا أن تفاقم الظاهرة يحول دون ضبط إحصائيات واضحة.
ولذلك سيشمل الإطار القانوني لآلية الوساطة العائلية تطويرا مقارنة بالمصالح العائلي الذي تمّ إحداثه بموجب القانون عدد 50 لسنة 2010 لمساعدة قاضي الأسرة في إنهاء النزاعات الزوجية التي تعرض عليه في إطار قضايا الطلاق.
ووفقا لما جاء في بيان لهويمل نشرته صفحة وزارة المرأة والأسرة وكبار السن الرسمية بفيسبوك، فإنه سيتمّ تطوير مؤسسة المصالح العائلي التي تقتصر على فض الخلافات الزوجية التي تعرض في إطار قضايا الطلاق.
وقال الطويلي إن “الأخصائيين الاجتماعيين يساهمون في المشاركة في وضع برامج وخطط لإصلاح الأسرة عبر تقديم الطرائق السليمة لحماية النسيج الأسري في وسائل الإعلام، ومحاولة توعية أفراد المجتمع وتعريفهم بأجدى الوسائل لحماية العلاقات الزوجية والأسرية والطرق السليمة للتعامل مع الطفل”.
وأضاف أن من “أدوارهم أيضا لفت نظر الجهات المسؤولة والرأي العام إلى خطر تفاقم بعض الظواهر دون غيرها، والتأثير لأخذ القرارات المناسبة حول مواضيع وظواهر بصفة استباقية”.
ويساعد مشروع قانون الوساطة العائلية على إحداث آلية لمكافحة الخلافات الأسرية بشتى أنواعها والحد من تفاقمها، بالإضافة إلى أنه يمكن أن يساهم في تخفيف الضغط الكبير على القضاة والمحاكم والتقليص من آجال التقاضي.
ويرى خبراء القانون أن الآليات البديلة لتسوية النزاعات ليست آليات جديدة، وإنما هي قديمة حيث كانت حاضرة وفعالة لدى كل المجتمعات، لكن الجديد هو أنها أصبحت ضرورية على مختلف الأصعدة، وهي ضرورة أفرزتها المعضلة التي يواجهها القضاء الرسمي في مختلف الأنظمة القضائية في العالم والتي تتجلى في تراكم أعداد هائلة من القضايا بسبب التأخير في إصدار الأحكام والبطء في حسم النزاعات.
ويتطلب اعتماد آلية الوساطة لفضّ أي نزاع وعيا من قبل المحامين والمتقاضين، حيث يمكن بمساعدة الوسيط الخروج بحلول ترضي كل الأطراف.
وأعربت أم لطفلين (رفضت ذكر اسمها) عن حاجتها الماسة لخوض تجربة الوساطة علها تحصل على طلاقها وتتخلص من العنف النفسي الذي يمارسه عليها زوجها، إذ طالت جلسات الطلاق، بسبب تلاعب زوجها المستمر، آخرها تأكيده للقاضية أنه يحب زوجته ويرفض التخلي عنها وعن أبنائهما، لكنه خارج قاعة الحكم هددها أمام عائلتها أنه لن ينفك عن تعذيبها.
وأضافت لـ”العرب” “زوجي يعاني من اضطرابات نفسية وملفه الصحي يؤكد ذلك، ولا يكفي أنني تزوجته دون علم بتاريخه الصحي، فهو وعائلته سلطوا عليّ شتى ألوان العنف بما في ذلك رفضهم تسليمي شهائدي العلمية حتى أتمكن من التقدم بطلب عمل لأعيل صغاري”.
وتابعت “أبنائي بحاجة لإحاطة نفسية، لاسيما أنهما صارا في سن الالتحاق بالمدرسة والاختلاط بالأطفال الآخرين، فهما شبا في وسط يعاني من التفكك الأسري”.
وبحسب الطويلي، فإن “الأخصائي يشارك في محاولة ترميم التنشئة الاجتماعية المختلة للأطفال عبر التوجيه والإحاطة والمرافقة”.
ولفتت وزيرة المرأة التونسية إلى أن الوساطة العائلية، التي يمكن أن تكون قضائية أو توافقية، لن تمسّ بأي شكل من الأشكال بحقوق النساء والأطفال وكبار السن ولا تتعارض مع القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضد المرأة.