الواقعية السحرية تجد طريقها إلى لوحات الفنان حسين حسين

بكثير من الرموز والإشارات، وبتوظيف للأشياء العادية، يصور الفنان حسين حسين في معرضه “الفصل” فصلا جديدا، واقعيا ومتخيلا من الحياة في لبنان، داعيا المتلقي إلى مشاركته في تأمل الحياة وحركتها باعتبارها جحيما يعيشه البيروتي الآن.
حين تكتسي الأشياء العادية، كقناديل الشوارع أو الأعمدة الكهربائية غير المُستخدمة أو إشارات السير المنتشرة أو المباني التي نعيش فيها ونمر من قربها كل يوم، غرائبية ما لتأخذنا إلى أبعد من هيئاتها الظاهرية نحو ما تحيل إليه من أفكار ومشاعر ومواقف نقدية نمسي على حافة ضبابية ومُلتبسة ما بين ما يسمى واقعا نعيشه بوضوح حذافيره المتكررة، وما هو خيالي يشارف مواطن الهذيان العام. وعندما يصبح التخيّل حالة مرجّوة وبلسما مُخففا لقباحة الواقع دون إنكار لقباحته، وعندما يكون الواقع المحض وأوصافه وعناصره المعهودة حتى الملل هي المكان الذي يرتع فيه الغرائبي بوصفه جزءا لا يتجزأ من هذا الواقع نكون قد حللنا في الواقعية السحرية.
ولعل ما يقدمه الفنان التشكيلي اللبناني حسين حسين في صالة “المحترف” في قلب بيروت تحت عنوان “الفصل” هو خير مثال على الواقعية السحرية حين تتجلى في لوحات اتخذت من الواقع اللبناني بمشاهده اليومية مسرحا “لعربدة”، إذا جاز التعبير، شياطين الإهمال والخطر المُحدق والفساد المستشري والسكوت عن الظلم. في المعرض أيضا أعمال تجهيزية فنية هي بمثابة بُنى اشتغل الفنان على تركيبها بالخيال، المُستند استنادا قويا على الواقع، ولكن بثلاثة أبعاد. كما لم ينس حسين عنصر الإضاءة الذي استخدمه لمسرحة الأجواء في المعرض وجعله في آن واحد واقعيا ولكن بشكل آخر مُحمّلا بالرموز والإشارات.
وفي المعرض أيضا لوحات تختلف عن بقية الأعمال وقد شاهدنا من أجوائها في معرضه السابق حيث رسم فيها الفنان الطبيعة اللبنانية مشحونة باختناق لوني يُذكر أحيانا كثيرة بالبلاستيك الذائب بفعل لهيب ما أو شمس عمودية. تقف في هذه اللوحات شخوص غامضة ومتداخلة مع خلفية اللوحات تعتلي عروشا وقمما ذائبة هي الأخرى أو مُطلة على جرف مُحتم لم يجيء أوانه بعد ولم تخفف الألوان من نبرة سوداويته.
يمكن اعتبار هذا المعرض استكمالا لما قدمه الفنان حسين حسين في معرضه السابق والذي جاء تحت عنوان "مشهد لبناني غير عادي". ويُذكر أن ذلك المعرض الذي لم يمض عليه أكثر من سنتين احتضن لوحات تمثل أزرارا وعواميد وسقاطات ومحولات الموتورات الفرعية والأساسية التي جرى على تسميتها بـ"الأم"، والتي تولّد وتوزع الكهرباء عبر شرايينها/ أسلاكها المُمتدة إلى شقق ومنازل تختنق من انقطاع الكهرباء شبه الكامل منذ أكثر من 4 سنوات بما يترتب على هذا الانقطاع من عدم إمكانية الحصول على الماء، إضافة إلى نتائج ومُلحقات عديدة منها اختناق سكان المدينة هذه من أسعار تأمين المبالغ الهائلة لأصحاب مولدات الطاقة التي بدورها تساهم بأنفاسها، إذا صح التعبير، أي بالروائح والملوثات الزاخرة بذرات السخام المتساقطة التي تبثها، تساهم في اكتمال المشهد العام.
◙ لوحات لم يعد يهمها أن تقف على حافة ما بين الواقع والخيال، بل أن تجعلنا نشعر ونتأمل في ما آلت إليه حياتنا
في معرضه الجديد "الفصل" لم يتخل الفنان عن التركيز على الأشياء "غير العادية" في حياة اللبناني، بل سعى إلى إظهارها بأنها من ناحية عادية جدا ومن ضمن نسيج المشهد الواحد، ومن ناحية ثانية أظهر اللبناني من دون أن يرينا إياه مباشرة وبجسده على أنه كائن متعايش مع أحكامها وأفعالها (أي الأشياء) وكأنها شخوص مثله وفاعلة مثله وقائمة بذاتها، ولكن بدرجة أكثر نفوذا منه، كيف لا وهي أي الأشياء "الحّية" تتحكم بمسار وتفاصيل حياته اليومية؟
من تلك الأشياء التي رسمها الفنان في لوحاته قارورة الغاز التي زينها بغرابة. زينها بألوانه كما تزيّن العروس ليلة عرسها، ولكن دون أن يقرُب في تلوينه إلى عالم الأزهار والأعشاب العطرية، بل اختصرت الزخارف على لطخات دموية تزنر القارورة وشروخ تمتد منها وتحيل الى احتمال التسربات الغازية في أي لحظة ممكنة.
الفنان حسين حسين ينفذ اليوم أكثر إلى فداحة الوضع اللبناني، ولكن من خلال توظيف الغرائبية في خدمة الأفكار السياسية والاجتماعية والنفسية الجماعية التي يتناولها. وهذا “الفصل” الذي يتحدث عنه بإسهاب في معرضه من خلال مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية المشغولة بمادة الأكريليك هو في حقيقته ليس بفصل بقدر ما هو اندماج غثياني إن لم نقل كابوسيّ ما بين أشياء الواقع والمعاني السوداوية التي تشير إليها. وهو في نفس الوقت لا يخرج عن تقديم أعمال فنية جذابة تدغدغ الخيال وتُشبع العين بألحانها وألوانها الغنية.
من الأعمال تلك التي تظهر علب توليد الطاقة الحاضرة في كل الشوارع اللبنانية لاسيما في بيروت، وهي أشياء جسدها في معرضه السابق كمضخات المياه وصاعق الكهرباء، ولكنه لم يجعلها تتماهى مع خلفية اللوحة حيث يحار المرء إن كانت جحيما مُستعرا أو ذوبانا تبرق فيه الشرر كتحذير من أخطار جمة تُحدق بالناس. ونذكر أيضا لوحة أخرى فيها عناصر عادية جدا كالماء على الرصيف وشريط كهربائي يسعى كالحية ويُنذر هو الآخر بخطورة اللقاء ما بين الماء والكهرباء. إنه السحر القائم في العلاقة ما بين عنصرين واقعيين.
وإن كنا في معرضه السابق رأينا أعمالا تظهر ببراعة وحسية عالية حجم التلوث البيئي والسمعي الذي يكاد يجعل ذرات الهواء ترتج من الضجيج العام الذي يسود فضاء مدينة بيروت، وشعرنا بمستوى الرطوبة العالية والثقيلة المُعلقة في الفراغ في خلفيات لوحاته المختنقة والتي تبدو فيها كل نقطة لون مشحونة برطوبة عالية، فإننا اليوم نشاهد لوحات لم يعد يهمها أن تقف على حافة ما بين الواقع والخيال، بل أن تجعلنا نشعر والأهم، تجعلنا أن نتأمل في ما آلت إليه حياتنا: اتحاد ما بين الخيالي المُقلق والواقع العادي جدا.
وإن كان الفنان قد طرح في معرضه السابق أسئلة وجودية في لوحاته تخص المواطن اللبناني أولا فهو اليوم لا يجد مانعا في الإشهار بإجابة مدوية كانت غائمة بعض الشيء في معرضه السابق بسبب ميله للفصل ما بين الأشياء في لوحاته ومحيطها. اليوم الإجابة ساطعة في قلب لوحاته: الجحيم الآن. الجحيم عادي جدا.
نشير إلى أن الفنان متعدد الوسائط حسين حسين باحث في مجال الفنون. هو من مواليد جنوب لبنان سنة 1970 سافر في سن مبكرة مع عائلته إلى السنغال ليعود في سنة 1984 متنقلا بين لبنان وروسيا لإكمال دراسته في مجال التقنيات الإلكترونية، وبعودته سنة 2003 قرر دراسة الفنون فتحصل على ديبلوم الفنون بدرجة امتياز وحصل على منحة دراسة فنون بفرنسا، لكن الظروف حالت دون تحقق ذلك فاستكمل دراسته العليا في الجامعة اللبنانية ومنها حصل على شهادة الدكتوراه.