النفوذ الإيراني في العراق.. هل هو نهاية صعود

اندلاع المواجهات بين مواطنين والحشد الشعبي في كربلاء رسائل تنذر بأن الوضع في العراق ليس على ما يرام. بغض النظر عن أسباب تلك المواجهات، إلا أن الفجوة بين الشعب العراقي بكل مكوناته والنفوذ الإيراني آخذة في التباعد.
وشهد شاهد من أهله، علي السيستاني إيراني المولد – لذلك لم يشارك في الانتخابات – إلا أن مرجعيته عربية، وأعلن أكثر من مرة أن العراق لن يطبق النموذج الإيراني في الحكم لأنه لا يصلح للعراق المكون من طوائف وأعراق متعددة. مقتدى الصدر الذي يُدرك خطر فرض نظام ديني في العراق مشابه لولاية الفقيه في إيران لكون المجتمع العراقي بطبيعته ليس دينيا وإن كان محافظا، يتبنى نهجا وطنيا يرتكز على تعزيز استقلال العراق وسيادته. وهذا في حد ذاته تباين فكري بين من يمثل كتلة شيعية ذات قاعدة واسعة من العرب وبين الشيعة في إيران، وهذا مؤشر يوحي في نهاية المطاف بانتهاء عقد الزواج الكاثوليكي بينهما آجلا أم عاجلا.
اللعبة الإيرانية في العراق باتت مكشوفة، وأطماعها الاقتصادية وتغيير التركيبة الطائفية أيضا يعرفها الشعب العراقي، وتبقى الأحوال السياسية والغضب الشعبي واردين في أيّ لحظة
على الجانب الآخر، يعتبر نفوذ إيران في العراق في أعلى مستوياته منذ عام 2003. كان العراق منذ الحقب التاريخية الساسانية والقاجارية وما تلاها من حقب مطمعا إيرانيا على جميع الصعد، وقد بدأ هذا النفوذ فعليا في عام 1981 بتشكيل المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وفيلق بدر، وبلغ ذروته الحالية بسبب نجاحات داعش في العراق والانتشار الإيراني اللاحق لمواجهته. إن وحدات الحشد الشعبي هي نتاج هذا الانتشار وذريعة لقتال داعش.
النفوذ السياسي لإيران يمكن أن نلمس مؤشراته بصورة أكثر وضوحا في أمرين، أولهما التصريح الذي أدلى به علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني حيث قال إن العراق، وعاصمته بغداد، كان ولا يزال عاصمة الإمبراطورية الفارسية، وهو جزء من حضارتنا وثقافتنا على حد قوله. فهنالك مصلحتان رئيسيتان تدفعان إيران إلى التدخل في العراق. الأولى هي منع أي حكومة تتشكل في بغداد من العودة إلى العداء لطهران، كما حدث عندما غزا العراق إيران وأشعل فتيل الحرب بين البلدين في الفترة 1980 – 1988. وقد لقي نحو مليون إيراني و250 ألفا إلى 500 ألف عراقي حتفهم في ذلك الصراع. أما الهدف الثاني لإيران فهو العمل من أجل أن تحل مكان القوات الأميركية في العراق والمنطقة برمتها حتى يبقى العراق تحت النفوذ الإيراني. والهدف غير المعلن للميليشيات التابعة لإيران هو ضمان الطريق البري المؤدي إلى سوريا ولبنان وطرق الإمداد للحرس الثوري في سوريا ولحزب الله في لبنان.
ضمن هذه الأهداف، نجح الإيرانيون في اختراق القطاعات الرئيسية في الاقتصاد العراقي، مثل النفط، في حين تموضعوا أيضا على مستويات عالية من النفوذ على المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، حتى إن بعض ألوية قوات الحشد الشعبي شبه العسكرية لديها روابط مباشرة مع طهران، بالإضافة إلى حضورها الدبلوماسي. كما تستخدم إيران علاقاتها بالأحزاب العراقية المحلية لتحقيق هذه الأهداف. ومن بين أقرب شركاء طهران المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، وحزب الدعوة الإسلامية الذي كان يتزعمه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتيار الصدري، ولو أن هذه العلاقات ليست خالية من المشاكل، بالإضافة إلى الأحزاب الشيعية الأخرى.
أما على صعيد علاقات طهران مع واشنطن، فتدهورت العلاقات بينهما بشكل حاد في أواخر عام 2019 مع الضربات الجوية الأميركية على ميليشيا شيعية والهجوم على السفارة الأميركية في بغداد. كان العديد من المراقبين قلقين من أن هذه الضربات تمثل تصعيدا نحو صراع مفتوح لكن لم تصل إلى درجة الاقتتال أو الحرب الحقيقية كصراع من أجل بسط النفوذ في العراق بين إيران والولايات المتحدة.
الإيرانيون نجحوا في اختراق القطاعات الرئيسية في الاقتصاد العراقي، مثل النفط، في حين تموضعوا أيضا على مستويات عالية من النفوذ على المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية
وفي هذا الإطار، يحتل العراق مرتبة متقدمة في السياسة الخارجية الإيرانية فهو بوابة إيران للخليج العربي والسعودية، كما يلعب النفط دورا في سياسة اتجاه العراق، فضلا عن البعد الأكثر خطورة وهو الطائفية، ومحاولة إيران الدؤوبة لفرض المذهب الشيعي في العالم السني.
علينا أن ننظر لأنفسنا في المرآة ونرى أنفسنا بعيوننا، فيجب ألاّ تغيب عن ذاكرتنا الصراعات بين الفصائل السياسية العراقية المتنافسة، ودور إيران في إذكاء النيران بينها، كما تدخلت باعتبارها فاعلا رئيسيا في العراق في جلسات الحوار مع الولايات المتحدة، قبل الانسحاب الأميركي من العراق، وتدخلت في الأزمة بين أكراد العراق وتركيا، فضلا عن زرع بذور الخلاف بين أهل السنة لتشتيت شملهم. ودليل ذلك ما قاله زعيم شيعي رفيع يعمل تحت إشراف علي خامنئي مشترطا عدم الكشف عن هويته: “لنا مشروع ضخم في العراق يهدف إلى نشر مبادئ ولاية الفقيه والشباب هم هدفنا”.
لا يمكن أن نتجاهل طبيعة وتعقيدات العلاقة بين إيران والعراق، التحديات تواجه العراق خاصة والعالم السني عامة. بالنسبة إلى العراق، فإن المسار المفروض أن يتّبع هو التعامل مع التأثيرات الخارجية مع تمتين وتقوية الوحدة الوطنية وإعداد خطط تنموية لتنهض بالعراق. أما على المستوى الإقليمي، يتمثل التحدي في تجاوز الخصومات التاريخية والانقسامات العرقية والطائفية، فالمشروع الإيراني في ظل حكم رجال الدين اختلط بين الشيعية كحركة طائفية هدامة وبين البعد السياسي، والمغزى من هذا التزاوج يكمن في الهيمنة على دول الجوار ونشر التشيع.
ختاما، اللعبة الإيرانية في العراق باتت مكشوفة، وأطماعها الاقتصادية وتغيير التركيبة الطائفية أيضا يعرفها الشعب العراقي، وتبقى الأحوال السياسية والغضب الشعبي واردين في أيّ لحظة. لكن أهمّ مسألة بات مطلوبا استيعابها والتذكير بها هي ثورة العشرين التي ما زالت حاضرة في الذاكرة العراقية والعربية على حد سواء، فالذي وقف في وجه بريطانيا وقتها من السهل عليه أن يحارب النفوذ الشيعي في العراق، ويحطم كل مآرب إيران في العراق. فالدول مثل الإنسان كما صورها ابن خلدون، طفولة وشباب وشيخوخة صعودا أو هبوطا أو تفككا، وهذا حال الدول.