النداء الثقافي في تظاهرات أكتوبر

كان ومايزال مطلوبا أن تدخل الثقافة إلى مناطق إشهار الشعارات الوطنية في العراق.
الخميس 2019/10/24
الشاعر مازن معموري من «ميليشيا الثقافة».. تعبير شعري عن الثورة على الحاضر السياسي

منذ الأول من أكتوبر الجاري وحتى اليوم تغيّرت بعض المفاهيم في الشارع العراقي، بشأن الحريات وحقوق الإنسان والحياة المدنية ومكافحة الفساد المستشري ونهب المال العام على نطاق واسع، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية واستثمار طاقات الشباب العاطلين عن العمل من خريجي الكليات والمعاهد، وغيرها من المطالب التي توجب على الحكومة العراقية أن تفهمها بشكل مباشر وتتدارك سلوكها السياسي المتخبط؛ فهي مطالب طبيعية جدا ينادي بها متظاهرو أكتوبر من الشباب الذين غيّروا صورة التحزّب والأحزاب ووضعت الجميع أمام مرآة مكشوفة للعراقيين والعالم.

ولأول مرة؛ ومنذ ست عشرة سنة سوداء جرت فيها مظاهرات حزبية موَجّهة؛ ارتفعت أصوات كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة تنادي بها المثقفين من الأدباء والكتّاب والفنانين وصنّاع الجمال للمشاركة الفعالة في رفد هذه الانتفاضة بالكلمة والصورة والتعبير الإيجابي السلمي المحرّض على استمرارها، وضخ الأمل في نفوس العراقيين من أنّ الحياة المدنية الأفضل ستأتي ولو بعد حين، بعد أن تتغير عمائم الفساد ويُقضى على الفاسدين من السياسيين الإسلاميين الذين أوصلوا البلاد إلى الحضيض ونهبوا أموالها وخزائنها وأفقروا البلاد والعباد، وأخيرا قتلوا شبابها الصغار الباحثين عن التغيير إلى حالة أكثر عدالة وجمالا وأمنا وسلاما.

النداء الثقافي هذا جديد في تعاطيه مع انتفاضة الشباب في محتواها ونزعتها الوطنية. إذ لم يسبق أن طولبَ المثقفون بمثل هذا الوضوح أن يكونوا شركاء في التظاهرات السابقة لأنها حزبية مسيّسة، بما يعني أن شباب أكتوبر لم يطالبوا بسلاح وبنادقَ ورصاص، بل طالبوا بالسلاح الأقوى والأكثر أثرا في جسد السلطة والسياسة الفاسدة؛ وهو سلاح الكلمة التي أرادوها أن تسير إلى جانب الصوت/الهتاف/الشعار/وتضخّمه وتنشره على ماديات أوسع، بنسق ثقافي جديد يمثل الوعي الجديد لشباب الانتفاضة. فالإيمان بالدور الثقافي هذه المرة كان أوضح وأكبر من الدور السياسي المشتّت بين الأحزاب الفاسدة الحاكمة. وكان مصدر ثقة للانتفاضة الجديدة بين الشباب غير المسيّسين.

وكان النداء لأن تدخل الثقافة بوعيها الوطني إلى مناطق إشهار الشعارات الوطنية المطلوبة هو تضمين للفعل الثقافي الوطني الحقيقي، لما لها من قابلية على أن تكون صوتا رديفا متضامنا وفاعلا على مدار المواجهات اليومية الحرجة التي دارت بين شباب يطالبون بالقضاء على الفساد وتوفير فرص العمل، وبين سلطة استعانت بالآخر-الخارجي-الدموي-القناص-لتغطية فشلها وتبرير جهلها بما حصل من قتل وإصابات وتشتيت لأفواج المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ومن ثم بالرصاص الحي الذي قتل وأصاب الكثيرين.

في المرات الماضية من تظاهرات التيارات الإسلامية المحسوبة على السلطة السياسية لم يكن مثل هذا النداء شاغلا أوليا؛ لأن للسياسة وتحزبها الديني المظهري-الطائفي لونا عُنفيا شرسا لا يلتقي مع اللون الثقافي ذي الطابع الإنساني العلمي الباحث والهادف إلى الجمال والحق والسلام، لذلك يمكن أن نقول إن الأجيال العراقية الجديدة الشابة خرجت من المعطف الثقافي الوطني ولم تخرج من المعطف الديني-الطائفي سيء الصيت؛ فهؤلاء تربية الانفتاح الجديد بعد 2003 ولا تربطهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالجنون الطائفي الذي خرّب البلاد والعباد وسرق الدولة وجعلها حطاما على حطام.

هذا شيء مشجّع جدا أن تكون مثل هذه الأجيال تعي دور الثقافة الحاسم في مواجهة سلطة لصوص طائفية غاشمة، وتطالب به بقوة أن يكون ساندا ومساندا، حتى بعد أن حوّلت السلطة هذا اللقاء إلى مواجهات مسلحة عبر مرتزقة عراقيين وغير عراقيين كقنّاصة غادرين، ومن الواضح أن السلطة وأعوانها المعمّمين أدركوا قيمة الوعي الثقافي للحالة العامة في هذه المواجهة غير المتكافئة، فعمدت إلى قطع الإنترنت وتوابعه الأخرى من المواقع لتحجيم الصوت الثقافي الذي سارع لدعم الانتفاضة وزخ الشعارات الوطنية الرافدة لمطالب الشباب. وهو ما جعل منظمة العفو الدولية تصدر بيانا بجميع اللغات أدانت فيه هذا الإجراء للتعتيم على انتفاضة أكتوبر و(لكي لا يرى العالم القمع المفرط وغير الضروري الذي مورس بحق هؤلاء المتظاهرين) وأن قطع بث الإنترنت (كان من أجل قمع التظاهرات بعنف وتخويف الناس وتوصيل رسالة لهم بأن السلطات قوية ومسيطرة).

اعتقالات عديدة في صفوف المحتجين
اعتقالات عديدة في صفوف المحتجين

ومع هذا التماهي السريع لوقف الحريق الشبابي الذي انتشر في أرجاء بغداد وبعض المحافظات الجنوبية، قامت السلطة باعتقال بعض الناشطين المدعومين من الجماعات الثقافية والأدبية على وجه الخصوص، وهي جماعات مستقلة غير متحزبة؛ إضافة إلى القمع غير المبرّر الذي أخرج العراق من عضوية حقوق الإنسان ليكون مُدانا أمام أنظار العالم، وسنرى الصورة غير ملائمة جدا تعكس بشكل جليّ وجه الأحزاب الإسلامية الحاكمة والسلطة البشعة التي تقودها الميليشيات في دولة عسكرية متعددة الولاءات لبعض دول الجوار المتناطحة.

ولم يكن الصوت الثقافي قاصرا في لحظات يومية سريعة الحركة بمواجهاتها الدموية الطويلة، وكان يتتبع مجرى الدماء النازفة من صدور الشباب العزّل ويشير إلى الفاعلين الدمويين بشكل مباشر. ولعل الثقافة بوصفها الشامل كانت منبرا مُتسارعا للتغطية على الأحداث البشعة التي مارسها الآخر-المرتزَق فهي انفتاح للوعي الوطني وشريان يغذّي الحماسة بالكلمة والصورة واللقطات الفيديوية التي أرادوا حجبها.

غدا المواجهات الجديدة. وسيكون للمثقف العراقي دوره وصوته في مرويات ربيع عراقي جديد بصفحته الثانية. وسيكون النداء الجديد أكثر قوة وفاعلية وأصالة وتوجيها إلى الحدث الجماهيري في استمرارية انتفاضة أكتوبر وثورة الشباب الأعزل إلاّ من كنز الثقافة الوطنية التي يعوّلون على صلابتها وقوتها بأن تكون السلاح الأقوى في مواجهة العمائم الفاسدة ورموزها الكارثية.

14