"سعاد والعسكر ".. دراما الواقع وعسكرة الفن

نالت الفنانة المصرية سعاد حسني شهرة منقطعة النظير في عالم الشاشة الكبيرة، وصارت “السندريلا” كما تلقب محط أنظار الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، لكن كل ذلك كان يخفي وراءه الكثير من الحقائق، حيث يرى الكثيرون أن المخابرات العسكرية ساهمت في نجاح الفنانة والتحكم بها، فيما جاءت وفاتها المريبة لتثير الشكوك والسيناريوهات حتى بعد عشرين سنة من رحيلها. وآخرها رواية العراقي نجم والي “سعاد والعسكر” التي قدمت رؤية أخرى تجمع الواقع بالخيال.
سيكون من قبيل المغامرة الفنية أن يشتبك الواقعي الصرف بالخيالي المفتوح، إلى الحد الذي يكوّن فيه الاثنان نسيجا صوريا موحدا، يتكامل في السرد ويعزز أحدهما الآخر. وهذا التوأم بلا شك سيخلق من الهوامش والمتون نسجا فنيا يختبر قدرة الكاتب على إحكام مثل هذا النسيج المركّب، لاسيما عندما تكون الثيمة المركزية لشخصية فنية أو اجتماعية معروفة على الصعيد الشعبي. وهو ما يجعل التلقي العام منجذبا إلى الفكرة العامة. وهذه أولى العتبات النصية التي ترشّح القارئ لأن يكون في تمام الثيمة ومحاورتها.
العراقي نجم والي المقيم في ألمانيا، أصدر رواية جديدة بعنوان “سعاد والعسكر”. وربما تُعد مغامرة سردية أن يتناول والي شخصية الفنانة المصرية سعاد حسني، في بدايات نشأتها ومن ثم شهرتها السينمائية والغنائية، والظروف المحيطة بها عسكريا ومخابراتيا، تلك التي أدّت إلى مقتلها أو انتحارها في لندن.
سيرة سردية
ثيمة رواية “سعاد والعسكر” تحتاج إلى وثائق وشهادات وانحيازات فنية، من شأنها أن تتصرف بكل ما هو متاح من مرجعيات واقعية وتاريخية شخصية. ثم المعاودة إلى العصر السياسي الذي نشأت فيه سندريلا الشاشة العربية كما يُطلق عليها. وتحليله طبقا لقواعد الفترة الزمنية التي بدأت فيها المخابرات المصرية بتجنيد الفنانات، والوقوف وراء شهرتهنّ وانتشارهنّ الجماهيري. لكن لن يكون هذا التفصيل ضروريا بالضبط، بفرضية أن الخيال السياسي هو ذاته الخيال السردي الذي تعامل معه المؤلف في هذه المتوالية الروائية عن الفنانة سعاد حسني.
لهذا لن تكون الرواية سِيَريّة في وثائقيتها المعروفة عندما أخرج والي من الوثيقة وسيرتها الواقعية ما هو صالح للروي، وملأ الفجوات المحتملة بالخيال السردي الذي كان له دور في تشكيل سردية فيلمية، ودراما روائية تعرّف بزمنها وظروفه، بدءا من النشأة الداخلية كخلفية اجتماعية لهذه الفنانة.
ولدت الفنانة في حي بولاق في القاهرة، لأب ترجع أصوله إلى الشام، هو محمد كمال حسني البابا الخطاط العربي الشهير ووالدتها جوهرة محمد حسن صَفّور تنتمي إلى عائلة حِمصية.. طُلّق والداها وتزوجا وهي صغيرة، وتزوجت خلال حياتها خمس مرات، أوّل زواج لها كان من عبدالحليم حافظ، ولم تنجب أي ابن أو بنت لها.
تطالعنا هذه السيرة المقتضبة بنوع من التفكك الاجتماعي الأسري الذي عانت منه الفنانة سعاد حسني، وهذا أمر لا بد من الانتباه إليه واقعيا. فهو ما سينعكس سرديا في مستقبل الرواية، لما صارت هذه الفتاة في مهب العسكر ومخابراته الذين تعاملوا معها وفق سياقات شَرَفيّة -اجتماعية- فضائحية (تم تصوير إزالة بكارتها وتم تهديدها أخلاقيا) لتكون بالتالي ضمن شبكة (نساء الفرقان) التي تضم فنانات ونساء من مختلف الطبقات وفي الأعمار كلها، من اللواتي تم تجنيدهنّ لصالح العسكر بالتجسس وتجميع المعلومات من الشخصيات المهمة محليا وعربيا، في إطار تعاملهن السينمائي والفني العام.
وفي هذا الإطار المشبوه تنمو سعاد كنبتة سامة في محيطها الاجتماعي والفني تحت القهر النفسي والورطة التي لا بد من أن تعيها جيدا في مستقبل حياتها المحفوف بالهوامش الطفيلية، لتعرف أن الثمن الذي ستدفعه سيكون باهظا. وهو ما حدث واقعيا وسرديا ضمن الوثيقة الاجتماعية الأخيرة التي تم التحقق منها.
التورط مع العسكر

يطالعنا والي في التسارد المتلاحق، بعيدا عن الوثيقة الواقعية، عبر الفصول الروائية دفتر أو دفاتر سعاد حسني واعترافاتها بالعلاقة مع العسكر منذ بداياتها حتى نهايتها الكارثية. بوجود شخصيات ثانوية ورئيسية تختفي وتظهر، تبعا لموجات السرد التي أحاطت بموهبة هذه الفنانة الصغيرة منذ كانت بعمر ست سنوات، والتي احتواها الملك فاروق وأعجب بفطنتها وفطرتها وهي تغني “أنا سعاد أخت القمر.. بين العباد حسني انتشر.. طولي شبر ووجهي بدر.. صوتي سحر كلي بشر”، خلافا لبنات جيلها وفي هذا الموقف الذي يغنين فيه عادة للملك والإشادة بسلطته.
وربما كانت هذه هي البداية التي لفتت أنظار العسكر المتخفين بجلباب التلصص على المواهب الصغيرة. ومن هذا الهامش الذي قد لا يلفت النظر، إلى سرديات ما بعد إعجاب الملك الذي صرف للمغنية الصغيرة 1000 جنيه لتعليمها الموسيقى والغناء.
ما بين الوثائقي والخيالي في الرواية تتشكل سيرة روائية دقيقة عن هذه الفنانة في شعرية روائية متسلسلة
وتكبر هذه السردية الصغيرة إلى ما هي أكثر اتساعا وشمولا لحياة فنانة، تورطت مع العسكر والمخابرات وتاهت حياتها الشخصية، بعدما فقدت عفّتها بطريقة الخديعة المخابراتية وتصويرها جنسيا والضغط عليها لتكون عميلة صغيرة، ضمن فريق الفنانات العميلات للمخابرات.
هذه الخديعة تسببت بها من دون أن تدري والدتها التي تقدمت بشكاوى إلى الملك فاروق بشأن الـ1000 جنيه التي بددها الأب، من دون أن يمنح الفرصة لابنته الصغيرة أن تطوّر نفسها وتتقدم في عالم الغناء. وهو ما لفت رجال المخابرات وأولهم شريف سليم عدلي لتوظيف سعاد الصغيرة للغناء في المناسبات الوطنية والتمجيد للسلطة، تمهيدا لزجها في إجراءات رئيسية تعني العسكر والمخابرات.
الوثيقة الاجتماعية قد تنوّه لإشارة مبكرة في ضياع هذه الفنانة. والسرد قد تعنيه مثل هذه الخلفيات الأسرية التي تعطي إشارات موضوعية عن حالات كثيرة. فالخلاف الأسري بين الأب والأم شتت انتباه الابنة الصغيرة وتركها تعيش في فراغ. بعد طلاق أبويها وزواجهما التالي بشكل متعارض.
أما الخلفية الاجتماعية فتُعدد من مستويات السرد على نحو ما. وتستشير شخصيات أخرى مواربة للحدث أو الأحداث التالية؛ كالأميركي سيمون سيروس الذي نقل دفاتر سعاد حسني، وهو الذي انتقل إلى مصر لتأليف “قاموس الجنود” راصدا فيه اللغة التي يستخدمها المارينز في الشرق الأوسط. ومن الطبيعي أن يكون تحت رقابة المخابرات التي لم تتوانَ في أن تزجه في هذا الصراع السري، وتمنحه فرصة الزواج منها لغرض مرافقتها إلى بغداد لتصوير فيلم “القادسية” التاريخي إلخ.
بين الوثائقي والخيالي

مغامرة سردية تتناول شخصية سعاد حسني في بدايات نشأتها ومن ثم شهرتها الفنية والظروف المحيطة بها عسكريا ومخابراتيا
وما بين الوثائقي والخيالي الطافح في الرواية تتشكل سيرة روائية دقيقة عن هذه الفنانة في شعرية روائية متسلسلة ومنطقية، والتي تمثل شكلا من أشكال النتائج السياسية التي مورست بعقلية العسكر ضد الهواة والمحترفين، حتى لتبدو تلك الحاضنة مهيبة وأسطورية وخيالية في تعاملها مع الآخرين، ممن يحاولون الوصول إلى سرديات الإبداع من دون مصدّات ثانوية، غير أن سوء الحظ الذي يرافق سعاد حسني، والتي امتثلت إلى نوازع العسكر، أفقدها الكثير من جمالها ودلعها الطفولي، وهي تحاول أن تخرج من الطوق المرسوم لها، عبر شخصيات ثانوية ورئيسية من العسكر (القاهرة مدينة لا يعمر فيها طويلا غير ضباط في الجيش).
بالرغم من أن الروائي لم يشأ أن يجعل من هذه السردية الطويلة بملامح بوليسية صارمة. غير أن الخيوط التحتانية التي تسيّر هذه الحكاية المثيرة تشرّح الوضع العسكري – المخابراتي السائد آنذاك، عبر الابتزاز الجنسي والأخلاقي، وهو العمود الفقري الاجتماعي الأخلاقي الفضائحي، كورقة عريضة يشهرها العسكر ضد الممتنعين عن التعامل معه، وفي جو شرقي صالح لهذه المناورات الابتزازية.
تناوبت الأصوات السردية في إعادة بناء الهيكل الروائي، مثلما تناوبت الهوامش الثانوية في ضخ المتن الرئيسي السردي بمغذّيات خيالية، خلقت جوا متصالحا لديمومة الفعل الروائي، في تتبع هذا الأثر الجمالي، بالرغم من قسوته الظاهرة والباطنة لسيرة الألم المفرط الذي عانت منه السندريللا في كفاحها المتواصل ضد نفسها وضد العسكر.
وبالتالي أصبحت الرواية وثيقة درامية في واقعيتها وخيالها في مسرودها الشعري، الذي منح طاقة فنية موازية للواقعي من الرواية. لاسيما دفاتر سعاد حسني التي بَنت معمار الرواية وهندستها، كونها الصوت الأكثر قربا من الواقعة في تدوين حقيقي لعسكرة الفن لصالح السلطة.