الأدباء والفنانون أول من وقف ضد الظلاميين

الأدب العربي يسجل حضوراً لافتاً في أكثر من بلد عربي في انعكاسات نفسية وكتابية طبيعية لمجمل الحراك الشعبي العام.
الخميس 2020/03/26
الإبداع والثورة في علاقة تأثير وتأثر

لا شك أن الفنون وعموم أجناس الأدب والإبداع تتأثر بما يحدث في الواقع، لكن التأثر مختلف، فهناك من المبدعين من ينخرط مباشرة في التفاعل مع الواقع من خلال أعماله، وهناك من يختار التمهل، فالإبداع متواصل بينما الحدث يولد ويموت بسرعة، ولا كانت المعادلة الضرورية للمبدعين بين التفاعل الحيني والتمهل.

منذ الأزمة التي خلقتها ثورات وانتفاضات الربيع العربي التي جاءت بالمتطرفين وعبيد المال والطائفية والمذهبية بعد سقوط عدد من السلطات الدكتاتورية؛ سجّل الأدب العربي حضوراً لافتاً؛ سرداً وشعراً ومقالات ومواجهات نقدية فاصلة في أكثر من بلد عربي؛ في انعكاسات نفسية وكتابية طبيعية لمجمل الحراك الشعبي العام.

وقرأنا إثر الثورات روايات وقصائدَ ومعالجات أدبية واجهت فقهاء الظلام وفضحت أفكارهم السوداء، في تعقيداتهم الفقهية التي تتخللها فتاوى جاهلية تعيد الحياة إلى الوراء أمام عالَم يتقدم ويعمل ويُنجز ويُبدع ويقطع أشواطاً في تجميل الإنسانية والحياة المتحضرة.

مبدعون في المواجهة

كان مثل هذا المنجز الأدبي يتقدّم كثيرا في أكثر من بلاد عربية، ناقدا ومحللا، وكاشفا الكثير من الأخطاء السياسية والاجتماعية التي يمرّ بها العالم العربي. فبدت تلك الثورات وكأنها كشّاف للمجتمعات العربية حتى أيقظتها من سباتها الطويل.

وكانت الرواية مثل غيرها من الفنون قد استعدت للأحداث الكثيرة المفاجئة التي حاولت أن تثني مسيرة الحياة العربية في هذا البلد أو ذاك بالقديم البالي من الأفكار المتطرفة والتخويف المسلح والإرهاب الفكري والعقائدي، التي أورثتها الكتب الصفراء ذات المعاني الفجّة منتهية الصلاحية والتي لا تتماشى وعصرية الحياة، فهضمت العديد من أفكار مرحلة ما بعد الربيع العربي وأنتجت الكثير من النصوص في هذه المرحلة الرمادية التي حاولت أن تطيح بالكبرياء العربية من منافذ كثيرة.

ونعتقد أن الأدب بأجناسه الكثيرة والفنون بأنواعها استوعب هذه الصدمة وأضاء للقارئ ما يتوجّب إضاءته من أفكار مضادة تعين على استدراك ما جاءت به الجهات الظلامية الكثيرة.

وعلى هذا الشكل لم تبقَ القصيدة متفرجة على السلوك الفوضوي الذي حاول تقزيم المساحة العربية المفتوحة إلى صناديق سوداء، فساهمت بخلق حالة من التفاعل الإيجابي بينها وبين أطياف قارئة تعنيها ومضات الشعر والتماعته النفسية وهي تطرق أبواب الأمل في كل لحظة. ومثلها بقية الفنون التي تضامنت تضامنا كليّا في درء الفتنة وفضحها صراحة، ومنها الفن التشكيلي الذي خلق موازنة صحيحة بينه وبين البصريات اللونية التي غصّت بها قاعات المعارض.

هناك أدب عام يكتب قبل الثورة أو بعدها يهتم بالجانب الفني، وأدب سريع يقع ضمن التصنيف الأرشيفي

ولعل الأفلام التسجيلية والوثائقية قد لعبت دورا حاسما في إيصال عشرات ومئات المشاهد إلى العالم، لتكشف بشاعة ما حصل في المناطق العربية من قبل الإسلام المتطرف كداعش والقاعدة وشبيهاتها في الدموية والحقد على الإنسانية في كل مكان.

وكانت المشاهِد الصادمة والترويعية التي رآها العرب قبل غيرهم، تشكّل لونا من ألوان الحقد الأسود على الحياة؛ كتابة وبصريات ورؤى وسماعا؛ قد كوّنت أرشيفا أدبيّا وفنيّا عربيّا كبيرا كشهادات صادمة في زمن متحوّل إلى ضدّه تسبّبت به تلك الجماعات المارقة وأشاعت الجهل والأمية والموت المجاني في كثير من فعالياتها.. فمَن يجمع هذا الأرشيف الأسود الضخم ليكون دليلا إلى أجيال المستقبل من قرّاء وباحثين وأكاديميين ونقّاد وروائيين وتسجيليين وشعراء وسينمائيين وتشكيليين؟ خاصة ونحن في عصر الأرشفة الإلكترونية الذكية السريعة. بما يتيح الإنجاز السريع والدقيق لكل تلك السنوات المريرة التي ما تزال معطياتها تحفر في الوجدان العربي.

ما بعد الحدث

أمام كل هذه المتغيّرات السلبية منذ سنوات غير قليلة يمكن أن نتساءل: هل يتغيّر الأدب فجأة بوجود ثورات وانتفاضات وتظاهرات كبيرة تتوخّى تغيير الأنظمة السياسية الفاسدة؟ وهل يمكن أن ننتظر ما يمكنه من أن يعبّر جماليا عن مثل هذا الحراك الشعبي والجماهيري بأن تتحوّل أفكار الثورات وأهدافها إلى كتابات في ملاحم وشعريات وسرديات تاريخية كبرى وسيَر جمالية كما يحدث في العراق وليبيا ولبنان؟

في السياقات العامة لدينا أدب عام يُكتب قبل الشروع بالثورة، وهو أدب يومي يتقصّى الواقع ومشتقاته من دون نبوءات مسبقة تمهد للثورة، لكنه ربما بسبب الفساد السياسي والطائفي قد يكون محرّضاً للجماهير بشكل أو بآخر مع تواتر الزمن. وهو أدب قد يبدو ظرفيا في معالجاته الواقعية والفنية ويقترب من الوثائقية إلى حد كبير بطريقة القناع أو التورية، لكنه يحاول خلخلة مفهوم الكتابة القارّة وينتج صوته في مثل تلك الظروف، غير أنّ هذا الأمر لا يحدث كثيراً أثناء الثورات التي تحرر الكتابة من أسباب توريتها وأقنعتها، حيث تكون الكتابة مباشرة وسريعة وقلقة؛ لاسيما وأن الكثير من الثورات العربية كانت تُبث على الهواء لحظة بلحظة عبر النقل الفضائي.

وبالتالي فإن المدوّنات الأدبية السريعة تقع ضمن التصنيف الأرشيفي حتى لو افتقدت بعضاً من الشروط الفنية، فهي خارجة من مطابخ الثورة وأفرانها. عالقة فيها أصوات البشر وهيئاتهم المختلفة ومشاعرهم المكبوتة ورؤاهم المتعددة وهم يستعدون لإخراج الحرية التي ينتظرونها جيلا بعد جيل.

لكن ما يُكتب بعد الثورات هو نقل التوصيف إلى مستوى فني آخر. ولنقُل نقل خيال الكتابة إلى هذا المستوى وليس نقل الثورة بوصفها منجزا ميدانيا متحققا. فالثورة تتحقق بنتائجها مهما كانت. أما الكتابة فهي ذات بُعد ديناميكي آخر يُستشَف فنيا مع الوقت المتكرر والذاهب إلى مستقبل السرد أو الشعر أو الفنون الأخرى، لذلك ومع المستقبل نحتاج إلى مثل هذا الأرشيف الثقافي الثابت بالمسح والتحليل ووضع قاعدة بيانات عامة تسهيلا للمراجعة والمطالعة، وكشف الحقائق الكثيرة التي قد يزوّرها الزمن، أي ننتقل معه من العصر الورقي إلى العصر الإلكتروني ما دامت وسائل التواصل والتوصيل دقيقة. وهذا التدوين الضروري هو مسك الحاضر والماضي بقوة بدلا من التشتت في المصادر الورقية المتعددة، لنكون أقرب إلى الوثيقة المهمة التي عاصرت الحدث وتبنّته وكتبتْ عنه.

مثل هذا الأرشيف الثقافي الضخم سيعكس الصورة الواضحة لما مضى من أحداث وانتفاضات وثورات وتغييرات بنيوية في الجسد العربي وعقليته؛ لأجيال الكتابة والقراءة مستقبلا.

14