الممثل الصامت يختار المستحيل لبلوغ هواجس المتلقي

فن "البانتومايم" يعتبر من أصعب أنواع الأداء المسرحي، وهو مختلف عن سواه من الأنماط الأدائية لكونه يعتمد على جسد الممثل في التعبير من خلال الإيحاءات التي توجد في اللوحة التي يؤديها حسب دوره، وهو فن له قواعده الصارمة التي يستنطق من خلالها كل فنان جسده ليقول به لا الكلام والمواقف والمشاعر فحسب بل وحتى الهواجس والسيرورة الدرامية.
فن البانتومايم يعد من أهم فروع فن المسرح، ويعود أصل كلمة “بانتومايم” إلى اللغة الإغريقية، وهي مشتقة من كلمتين: Panto وتعني كل شيء وMimeomai وتعني أقلِّد، ومن مجموع هاتين الكلمتين انبثق مصطلح البانتوميم أو فن التمثيل الإيمائي الذي يعني فن التقليد أو فن المحاكاة لكل ما تحتويه الحياة.
وتأريخيا أطلق الإغريق مصطلح “البانتوميم” على العروض الفنية التي تتم فقط عن طريق الأفعال الجسدية والإشارات والإيماءات التي يقوم بها الممثلون ويعبرون بها عن شخصية الأبطال مجسدين بها فكرة المؤلف، وأما اليوم فما يضيفه الباحثون المعاصرون هو أنه علينا أن نفهم ذلك الفعل الصامت الذي يتجسد عن طريق الحركات الرشيقة والذي كان أساسا للفن الدرامي.
فن الجسد

منعم سعيد: الإخراج في فن البانتومايم أكثر تدفقا ودقة وذاتية
يعد الفنان المسرحي العراقي منعم سعيد الذي يواصل الجهود البحثية والفنية لمارسيل مارسو وجان لوي بارو، أهم من اشتغل في “البانتومايم” والجسد المتفرد في فن التمثيل الصامت، بل يعد الريادي الأول لفن البانتومايم العراقي، فقد استطاع وبجهد شخصي أن يؤسس “جماعة الديوانية للتمثيل الصامت” التي كانت تعد ثالث فرقة في هذا اللون المسرحي في الوطن العربي.
قدم سعيد العشرات من العروض المسرحية الإيمائية داخل وخارج العراق وحاز على جوائز ومراكز متقدمة، وأقام الورش المسرحية المتخصصة التي تناولت أسس وقواعد وطبيعة هذا الفن المسرحي المغاير وغير النمطي، فبات أهم رموزه البارعين.
وبناء على هذه التجربة الواسعة، نظريا وتطبيقيا، والتي امتدت إلى أكثر من عشرين عاما تهيأت الفرصة له، لتأليف كتاب متخصص حمل عنوان “البانتومايم.. تاريخ جدلية التكوين في أداء الممثل الصامت” صدر عن نقابة الفنانين العراقيين، وجاء في 195 صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة من الإصدارات الفنية المتنوعة التي دأبت النقابة على إصدارها.
الكتاب تضمن خمسة فصول وخاتمة ابتدأها المؤلف بمقولة لتيودور بانفيل “بين الضفتين: الممكن والمستحيل وقع اختيار الممثل الصامت على إحداهما وقد اختار المستحيل، فهو في المستحيل يعيش وما يؤديه إنما هو المستحيل”.
كما ينطلق من مقولة أخرى لفيثاغورس “لا أسمع سوى صوت جسدي الداخلي المنير”، وكلتا المقولتين ترمزان وتشيران إلى أهمية ومكانة فن البانتومايم تصريحا وتلميحا، حسب رؤية الفنان منعم سعيد الذي يعد هو والتمثيل الصامت صنوان لا يفترقان أبدا.
يبدأ سعيد رصده لهذه الظاهرة المسرحية من البحث في “البانتومايم بذرة المسرح على الأرض”، إذ يستعرض بدايات وأسس وعناصر وآفاق ورؤى المنظرين المسرحيين حول هذا التمثيل الإيمائي، الذي يعبر عن إظهار المشاعر على شكل حركات أو انعكاسات للحس عوضا عن الكلمات، ليكون قريبا إلى النفس البشرية من كل محاولات التعبير الصوتي، فهو فن يستطيع التعامل بدقة مع الطبيعة بكل عناصرها ومع البشر وبواسطته يمكن التعبير عن أمور غير مرئية لأنه يتعامل مع الذات الإنسانية بأدق التفاصيل التي تصل إلى أكثر من الهواجس أحيانا.
ونجد أن الممثل يستطيع أن يكوّن الأشياء من فراغ أو فضاء المسرح ويضع لها ثقلا ووزنا يتعامل معها ليكرسها في ذهن المتلقي لتجسيد “فن الجسد الذي يبتعد عن اللغة ويضع حدا فاصلا لتلك الكلمة ‘أدب‘، الابن العاق لهذا الفن، لأن ما فعله الأدب بالمسرح يشبه أكل الثمرة وتدمير نواتها، لكي لا تنجب ثمرا يحمل صفات الفاكهة القديمة”.
مثل النحات
خصص سعيد الفصل الثاني من كتابه لـ”الفضاء المسرحي والجسد”، وفيه يؤكد على ضرورة أن تضع التقنيات الحديثة التي “أرهقت الفعل الدرامي كل مقومات المسرح في خدمة الممثل لا العكس”، ويعود أيضا إلى رؤى منظري المسرح في صياغة الفعل الدرامي الصامت من خلال توظيف كل الإمكانات التقنية بما فيها الخشبة لتمكين الممثل الصامت ليزاول فنه ببراعة تذهل متفرجيه من العامة أو النخبة، مستعرضا طبيعة وإمكانات وتقنيات وتحولات هذا الفن.
وتحت عنوان “البانتومايم في أوروبا في العصر الحديث” يواصل المؤلف الاستعراض التاريخي والفني والإبداعي والتقني والتطور النظري والعملي في طبيعة ونوعية ورواد ومفاهيم فن البانتومايم.
وينتقل سعيد للحديث عن “ثقافة الجسد وتقنياته” انطلاقا من تصاعد إدراك مكانة الجسد ودوره في حياة الإنسان وفي المسرح كمفصل مهم لمعالجة مشكلاته، وكما يقول مايرهولد “هو العنصر الرئيس على خشبة المسرح” لأنه أرقى وأصدق من الكلمات من حيث الدلالة ومن حيث الاتصال وإزالة كل ما هو دخيل على هذا الفن البصري، ليواصل تقديم رؤى عدد آخر من منظري المسرح الصامت في هذا المجال، مقدما لنا رؤية شاملة لمارسيل مارو أنموذجا، وهو الذي يعد من أعظم فناني البانتومايم الذين عرفهم العالم.
ويتناول المؤلف في الفصل الخامس مسألة “الإخراج في فن البانتومايم” بصفته وسيلة أكثر تدفقا ودقة وذاتية من أن تحبس في قالب ثابت، كما أنه أكثر الأشكال المسرحية اعتمادا على شكله وعلى الممثل الذي يقوم بأدائه وإبراز صورته، مستعرضا المبادئ الإخراجية تفصيليا.
ويختم منعم سعيد كتابه بـ”استبصار روح فنان البانتومايم” مؤكدا أهمية “الخصوصية، ومقدار الخبرة الفنية والثقافية، والمهارة والتقنية، والتعامل مع المادة الخام وتطويعها، وعمق الرؤى الجمالية والخيال وعلاقتها بالفكرة”، انطلاقا من تأكيده الاستنتاجي وليد التجربة الطويلة الذي يقول فيه “لا أريد أن أكون مقلدا أو تابعا لغيري لمجرد الاختلاف وإنما للتفرد وتحقيق ذاتي وبثقة المفكر المستقل الحر”.
ويضيف “بما لديه من الاستعداد والقدرة على تجاوز عملية تطويع الجسد واعدادها، بشكل منظم وبالآليات المنظمة والبحث المستمر، فالممثل الصامت مثل النحات تماما، لكنه لا يستعمل الأزميل والمطارق والشفرات وحتى الحجر، بل يستخدم يديه أو بقية جسده ليكون الأشياء والأفعال ويبني بها الحدث الدرامي الذي يريد إظهاره”.