المقاطعة الاقتصادية المنظمة أسلوب ناعم سريع المفعول

المحرك الأول للسوق هو التبضع فهو مؤشر على رفاه الدولة ونهضتها الاقتصادية، وتظهر التجارب أن هناك حكومات في المنطقة العربية جعلت من العطل والمناسبات وحتى أيام العمل فرصة لدفع الأسر إلى زيادة الإنفاق ووفرت لها كل الظروف حتى تقوم بذلك.
ولكن مع استغلال التجار لهذه الحالة عبر زيادة الأسعار في محاولة للربح السريع على حساب الطبقات الفقيرة، يضطر المستهلكون إلى مقاطعة المنتجات أو الخدمات، التي تثقل كاهل أسرهم بمصاريف إضافية وتبقى أسيرة الراتب القادم وربما الاضطرار إلى التداين.
كثيرة هي التجارب التي أظهرت أن المقاطعة سلاح فعال، فالتحركات الاحتجاجية من قبل النقابات العمالية والجهات، التي تهتم بالدفاع عن المستهلكين لا تؤتي نفعا في أغلب الأحيان، لأن التظاهر يقابله في العادة رد عنيف من أجهزة الأمن التي لا تتردد في قمع المتظاهرين. قوة المقاطعة الشعبية لسلعة أو خدمة ما تكمن في كونها حقا مشروعا للمستهلكين، فهم يرون أن هناك تلاعبا بالأسعار يجب إيقافه بسبب غياب الرقابة الصارمة على الأسواق، وهو ما تقوم به المجتمعات لإيصال رسالة للشركات والتجار مفادها أنها ترفض أسعارهم الجنونية من خلال الامتناع عن شراء بضائعهم والاتجاه لسلع بديلة.
توسع تلك الحملات له أسباب يراها المقاطعون في العادة جوهرية، فتزاوج المال بالسلطة يعد سببا رئيسيا في نظرهم من أجل حشر المنتجين والحكومة في زاوية وإجبارهم على مراجعة حساباتهم الضيقة. ولكم أن تتخيلوا مدى قسوة هذا الوضع على المصنعين لو تكرر مرارا في العام وقد يكون على مدار العام أحيانا خاصة في ذروة نشاط السوق.
لكن الشركات في الحقيقة تخشى الرقابة، أكثر من خوفها من المستهلك، لعدم رغبة السلطات أصلا في خفض الأسعار لسيطرة المخاوف عليها من أن تؤثر حملات المقاطعة على عمل المصانع وتتسبب في ركود السوق، وبالتالي فإن استمرار الحال على ما هو عليه قد يضر باقتصاد الدولة والمستثمرين والعمال والمستهلكين على حد سواء.
هناك اعتقاد سائد بأنه من الضروري الحذر من استعمال سلاح المقاطعة بشكل غير مبرر خشية أن يفقد فعاليته، فكثير ممن يؤيدون هذا المسار يحرصون على أن تكون دعوات توسيع رقعة المقاطعة مدروسة بشكل جيد وغير عشوائية من أجل ضمان نجاحها في نهاية المطاف.
أثبتت حملات المقاطعة في العديد من الدول العربية بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات الاستهلاكية نجاحها، فالمستهلكون لجأوا إلى هذا السلاح كآخر أمل لهم للخروج من أزماتهم المستمرة من خلال الضغط على حكوماتهم للحد من تغولها ضد الطبقات الفقيرة. وعلى سبيل المثال، مقاطعة التونسيين لـ”عصيدة الزقوقو” التي تشكل مناسبة للاحتفال بالمولد النبوي، هذا العام جاءت بسبب ضعف قدرتهم الشرائية وارتفاع أسعار المواد، التي من المفترض أن يصنع منها هذا الطبق التقليدي. وبهذه الصورة، توقف الإدمان الاستهلاكي للتونسيين الذي لم يعد خيارا متاحا لهم كما في السابق.
باتت تترسخ قناعة لدى المستهلكين في تونس بأن الإنفاق غير المقنن خلال المناسبات الدينية أو الأعياد وغيرها، على شراء السلع مهما كانت قيمتها ليس ضمن أساسيات الحياة المعيشية اليومية، بل يدور في فلك الترف الاجتماعي، الذي لم يعد بوسعهم الدخول فيه. الأمر نفسه تكرر في المغرب والجزائر ولكن بدرجات متفاوتة على سلم المقاطعة. وقد كانت النتائج إلى حد بعيد قريبة من تلك التي فعلها التونسيون وربما أكبر من ذلك بكثير.
فالمقاطعة المغربية لعدة منتجات استهلاكية أساسية، بدأت من تدوينات فيسبوكية قبل أشهر أحدثت دويا كبيرا ويبدو أنها لا تزال مستمرة حتى اليوم، فبعد أن رفع التجار أسعار منتجات الألبان كان رد المواطنين الفوري بالامتناع عن شراء هذه المنتجات حتى تفسد عند أصحابها تحت شعار “خليه يريب”.
الحملة طالت بعد ذلك شركات لبيع الوقود وأخرى لإنتاج المياه المعدنية المعلبة ليتوسع نطاقها لتشمل مشروبات غازية. وقد انصاعت تلك الشركات في النهاية لمطالب المستهلكين، ورغم ذلك لم يعد الإقبال كما كان في السابق، حيث يقول ناشطون أطلقوا الحملة إن ما فعلوه سيلقن رجال المال والأعمال وأصحاب النفوذ السياسي درسا قاسيا بعد أن يحصلوا على كشف بالخسائر. لقد أجبرت حملة “خليها تصدي” في الجزائر قبل فترة احتجاجا على الأسعار الخيالية للسيارات، وكلاء البيع على خفض أسعار عدة علامات تجارية، وهو أمر فاجأ الموردين وحتى البعض من المسؤولين، ما يعطي انطباعا بأن المقاطعة أسلوب ناعم وسريع المفعول.