"المغتربان".. ديودراما جراح المنفى وتساؤلات الضياع

عرض "المغتربان" فجّر الكثير من الأفكار الذهنية والفلسفية حول جدوى العيش دون أمل، والمعنى الحقيقي للحياة، ومغزى ادخار الأموال من أجل أسرة وأطفال في بلد آخر.
الاثنين 2019/03/04
الصديقان/ الخصمان يخوضان صراعا متتاليا

على الرغم من القيمة الكبرى للنص في فضاء المسرح، كمنطلق أساسي للأحداث وأرضية ومظلة لها، فإن النص يبقى على أهميته ومحوريته، عنصرًا من عناصر التوليفة المسرحية كرؤية بصرية شاملة تتيح للمشاهد حياة كاملة بكل تفاصيلها، وهذا ما نراه في اشتغال المسرحية الفلسطينية “المغتربان”.

الشارقة- أثبت المسرح الفلسطيني جدارته وحضوره المتوهج في “مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي” الذي اختتم الأحد 3 مارس بالشارقة، حيث قدمت فرقة مسرح “نعم” الفلسطينية ديودراما “المغتربان” بمعالجة نابضة مكثفة لرائعة البولندي سلافومير مروجيك “مهاجرون”، وصياغة مسرحية جادة واعية.

تمكن العرض الفلسطيني “المغتربان” من استيحاء نص شديد الثراء للكاتب البولندي سلافومير مروجيك، ليحيك من خلاله تجربة مسرحية مميزة، فلمس العرض قلوب الحاضرين بقدرته على تمثل الجماليات المسرحية بحركيتها وصراعاتها ونموّها الدرامي والأداء التلقائي السهل للممثلين، فضلًا عن السينوغرافيا الوازنة والتقنيات الفنية المتطورة من إضاءة وموسيقى ورؤية إخراجية مرهفة.

زوايا ودلالات

نكأت مسرحية “المغتربان” جراح المنفى وأثارت أوجاع الشتات وتساؤلات الضياع، وعلى الرغم من أنها لا تدور في زمان ومكان محددين، وفق رؤية الكاتب البولندي سلافومير مروجيك وكذلك وفق المعالجة المسرحية الفلسطينية، فإنها قد تماست مع الهم الفلسطيني على وجه خاص، والهم العربي بصفة عامة، إذ تشكل مأساة الاغتراب والمنفى معاناة الملايين من الفلسطينيين والعرب حول العالم.

قدم جورج إبراهيم ترجمته ومعالجته للنص من خلال التكثيف والتقاط الزوايا الدالة الرامزة، فلا إهدار للطاقة في ما لا يُجدي، وهذا ما اعتمده المخرج والمصمم إيهاب زاهدة في تفجيره للأحداث بصريًّا ورسم مسارات الحركة للدراما وللممثلين بحساسية وتركيز.

المسرح الفلسطيني يتألق في مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي بالشارقة
المسرح الفلسطيني يتألق في مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي بالشارقة

من جهتهما، قدم الممثلان محمد الطيطي ورائد الشيوخي المراد منهما باقتدار، معتمدين البساطة والتلقائية في النطق باللهجة الفلسطينية والأداء الجسدي غير المتكلف والحركة الطبيعية التي تبدو كأنها غير تمثيل.

يمكن وصف العرض بأنه مشهد حياتي مصوّر كما هو أو منقول من مسرح الحياة من فرط واقعيته وإغراقه في تجسيد المأساة واستيفاء عناصر الكوميديا السوداء على خشبة المسرح، لكنها بالتأكيد عيون الفن المسرحي وليست عيون الكاميرا التي تصوّر الحياة، ففي زمن المسرحية الذي ناهز الساعة، تقصى العرض سيرة حياتية كاملة للمغتربين، وتفاصيل المعاناة في الغربة على مدار سنوات طويلة.

ليلة واحدة فقط دارت فيها أحداث المسرحية، لكنها ليلة دالة، فهي ليلة رأس السنة، حيث نهاية عام وميلاد آخر، وفي حين يتطلع البشر في هذا التوقيت الفارق إلى آمال وأحلام وطموحات جديدة، فإن بطلي العرض، وهما شابان مغتربان يعيشان في غرفة متواضعة، يدخلان في حوار درامي حركي، مشحون بالانفعالات، يبدأ بالإحباط، ويمر بالأمل في لحظات قليلة، وينتهي باليأس التام والعدمية، حيث الاختيارات الصعبة بين البقاء المأساوي في الغربة أو الموت أو الانتحار.

المثقف والهادئ

عبر ديكور مُهندَس بعناية لغرفة فقيرة ذات سريرين بائسين ومنضدة صغيرة خاوية ومكتبة مكدسة بالكتب إلى جوار أحد السريرين، وجد المتفرجون أنفسهم داخل الحدث مباشرة مع بداية العرض، ويتكشف أن هذه الغرفة يسكنها شابان مغتربان، متناقضان تمامًا في كل شيء.

أحد البطلين مثقف، هادئ، يفلسف الأمور ويمنطقها ويحمّلها أحيانًا فوق ما تحتمل من التأويل، وهو سياسي معارض، اضطر إلى ترك بلاده بسبب التضييق عليه وحجب مقالاته الصحافية وملاحقته أمنيًّا، حيث جرى تخييره بين السجن الدائم والمنفى، فاختار الاغتراب على أمل في أن يدرك الحرية المنشودة في الخارج، ويتمكن من توصيل أفكاره، والعودة إلى الوطن.

البطل الثاني، نموذج للشخص الجسداني، الشهواني، المخادع، الانتهازي، الأناني، البخيل، المتوافق مع السلطة حد النفاق، الذي يرضى بأن يعمل كالآلة طوال الليل والنار مقابل أجر زهيد مُهينًا إنسانيته من أجل كنز المال وتخبئته في دمية بالغرفة، حتى لو اضطر إلى البقاء أيامًا بغير نوم، وإلى تناول طعام الكلاب لأنه أرخص، بما عرضه لأزمات صحية متتالية.

من خلال تبادل أطراف الحديث الموجز الكاشف، والتحرك المتواصل لملء فراغ المسرح، بغير تكلف أو مبالغة، ينخرط الصديقان/ الخصمان في مراحل متتالية من الصراع، فكل منهما يرى عيوب الآخر ونقائصه، ولا يرى عيوب ذاته، ومن ثم يصير كل منهما مرآة لرفيقه، وتتحول الاتهامات المتبادلة بينهما من ثرثرة مجانية لا وزن لها، ككل الكلمات في الغربة، إلى سياط لاهبة يجلد بها كل منهما الآخر.

فجّر العرض الكثير من الأفكار الذهنية والفلسفية حول جدوى العيش دون أمل، والمعنى الحقيقي للحياة، ومغزى ادخار الأموال من أجل أسرة وأطفال في بلد آخر في حين أن الأرواح ليس بوسعها التلاقي، ومفهوم المثقف العضوي الذي يلجأ إلى الهرب والتقوقع، وعلاقة النخبة بالحكام وبالشعب.

نجح العرض في تصوير مطامع البشر، فكل واحد من البطلين كان ينتفع بعلاقته مع رفيقه، فالفوضوي الانتهازي كان يعول على رفيقه في دفع إيجار الغرفة وشراء مستلزمات الإعاشة بالكامل، والمثقف كان بصدد إعداد بحث عن “عبيد المال والغربة”، ورأى في رفيقه الفوضوي اللاهث وراء ماديات الحياة صورة مثالية لما يريد رصده وكتابته في بحثه.

تمكن صُنّاع العرض من نسج الأفكار العميقة بسلاسة ودون صخب، في إطار العناصر المسرحية المندمجة، الثرية بصريًّا والممتعة جماليًّا، والمصحوبة عادة بالحركة والتقنيات العالية في الإضاءة والمؤثرات الصوتية والموسيقية. وجاءت جميع المساحات والفراغات المتاحة بمثابة شبكة من التوتر والتصاعد واللهاث، وصولًا إلى اللحظة الحاسمة مع نهاية العرض.

مهّدت الأحداث لتلك اللحظة المحورية، التي جاءت بعد سهرة رأس السنة التي احتفلا بها معًا بالشرب والسكر في الغرفة، حيث استشعر كل منهما الندم جراء عتاب الآخر له، وفضح عيوبه، فمزّق الفوضوي كل الأوراق النقدية التي ادخرها، وهمّ بالانتحار، لكنه لم يستطع التنفيذ، لإفراطه في حب الحياة، وقرر أن يحرر نفسه ويبدأ من جديد. وفي تلك اللحظة، أدرك المثقف أن “العبد المثالي” الذي يكتب عنه، قد اختفى إلى الأبد، وصار إنسانًا كامل الإرادة، فمزّق هو بدوره أوراق بحثه، وأقدم على شنق نفسه.

لقد تخلص كل منهما من أوراقه إلى الأبد (سبب بقائه في الغربة، ومبرر عودته المؤجلة)، فصارت العودة إلى الوطن مستحيلة في الوقت الحالي، بما يعني انتفاء صفة الحياة. وهنا: تساوى الصديقان من جديد في مستقبلهما الدامي، فالمثقف اختار الموت الفعلي، والفوضوي اختار مواصلة الحياة في الغربة (الموت ببطء)، ولعل في هذا الاختيار الثاني منجى قد يتأتى بعد حين، فيكسر الصورة العدمية.

بجانب تفوّق عرض “المغتربان” في إحيائه نصًّا عالميًّا وتوليده أفكارًا وتأملات متعمقة، فإن سر نجاحه الحقيقي يتمثل في قدرته على إكساب هذه المعطيات الأولية، وغيرها، أجنحة تحلق بها، في ما يمكن وصفه بـ”صناعة مسرحية” من العيار الثقيل، قوامها الانضباط والتكثيف والدهشة والبراءة والتلقائية حد الإيهام بمشاركة المتفرجين في الحدث.

15