المصورة اللبنانية هدى قساطلي تقدم سيرة جرح لم يندمل "من بيروت إلى حلب"

حملت هدى قساطلي كاميرتها لتكون سلاحا ناعما وثّقت به الخراب والدمار اللذين طالا حلب وبيروت. وكانت صورها التي التقطتها بين المدينتين جزءا من الذاكرة الجماعية وأرشيفا يراه الناس بأعينهم وتخزنه ذاكرتهم، لكنهم يتأملونه للمرة الأولى في معرض صور فوتوغرافية يكشف الوجع المشترك ودور الإنسان في الخراب الذي يلحق بالأوطان.
كتب منذ بضعة أيام سهيل منيمنة مؤسس ورئيس جمعية “تراثنا بيروت” على صفحة فيسبوك الخاصة به، وقال “لقد سلبوك حتى تراثك الذي تكافح لأجله! قلت من يزرع خنجرا في ظهر الماضي، زرع المستقبل في صدره ألف سيف!”.
تكاد هذه الكلمات تختصر ما تقدمه صالة أليس مغبغب حتى الخامس والعشرين من سبتمبر القادم من معرضين للمصورة الفوتوغرافية والأنثروبولوجية اللبنانية هدى قساطلي تحت عنوان “من بيروت إلى حلب”. إضافة إلى ذلك عرضت المصورة فيلما من تصويرها عن مستشفى أثري يعود إلى القرن الرابع عشر بعنوان “العودة إلى بيمارستان أرغون”.
تنظم صالة أليس مغبغب معرضا للمصورة هدى قساطلي في إيطاليا يتألف من جزأين، الجزء الأول ضم 11 صورة، بدأ عرضها في الخامس والعشرين من يونيو في مؤسسة “سانت إيليا” في مدينة باليرمو، كانت قساطلي صورتها في سنة 2018 بطلب من اليونيسكو، عن مدينة حلب الأثرية العريقة التي تعرضت إلى تدمير يكاد يكون ممنهجا، الهدف منه القضاء على التاريخ المعماري للمدينة الذي نسج نسجا وثيقا مع مهن وانشغالات وأمزجة تخص أهل مدينة حلب عبر العصور المتعاقبة.
الصور المعروضة أشبه بسيرة ذاتية بصرية أو مناجاة للذات سيرى فيها الكثيرون ما عرفوه وشعروا به في الماضي
والصور التي عرضتها هدى قساطلي هي أشبه بسيرة ذاتية بصرية أو مناجاة للذات سيرى فيها الكثيرون ما عرفوه وشعروا به في الماضي غير البعيد، قبل أن تنهال الرغبة في إلغاء هيئة المدينة على رأس حلب، تماما كما حدث في بيروت.
ويذكر البيان الصحافي أن “تلك الصور مأخوذة خلال تجوال هدى قساطلي في مدينة حلب برفقة والدتها تحت أقواس الأبواب الحجرية المصنوعة من الدانتيل الحجري.. لكن البيوت أصبحت بعد الحرب مفتوحة للرياح والأشباح”.
أما الجزء الثاني من العرض فهو مخصّص لمدينة بيروت، وضم 44 صورة. ومما ذكر البيان الصحافي المرافق للمعرضين “مع صور الأبواب والنوافذ والأقواس والقناطر التي التقطت قبل أو بعد انفجار مرفأ بيروت، تلتقط قساطلي العناصر المعمارية الزخرفية والملونة. بمرور ضوء النهار، ترسل هذه الأبواب والنوافذ والأروقة، انعكاسات ملونة متلألئة، ما يضخم الحياة اليومية للسكان، ويكرس ارتباطهم بالتراث المدمر”.

زاوية نظر مختلفة للجمال
أليس مغبغب، صاحبة الصالة، التي أصحبت على مرّ السنوات نواة تنطلق منها عدة أنشطة ثقافية وفنية في داخل وخارج لبنان على السواء، تكلمت عن الحدث الفني قائلة “تصور هدى قساطلي في معرض بيروت مراحل العصر الذهبي لهذه المدينة حتى يومنا هذا. يقام المعرض في مدينة صغيرة اسمها جيبلينا الصقلية البعيدة نحو 100 كيلومتر من باليرمو. وفي حين توالى على تدمير بيروت جشع وحقد الطبقات السياسية اللبنانية المتعاقبة، شوهت الهزة الأرضية وجه مدينة جيبلينا سنة 1968 واستمر سكانها لنحو 20 عاما تحت الخيم منتظرين إعادة إعمار مدينتهم الجديدة، على جبل فوق البحر”.
لم يكن هذا المعرض المزدوج بما تضمن من صور تُخلد تراث المدن بالتلازم مع ناسها معرضا جديدا من نوعه بالنسبة لهدى قساطلي، التي ارتبط اسمها طويلا بشغف التصوير المتأهب دوما لإنقاذ المدن من موتها، على الأقل افتراضيا وذلك لهدفين مهمين. الأول وهو الأكثر مباشرة: لأجل الحفاظ على الذاكرة من خلال أرشفة الصور، وهو أمر عاهدت نفسها عليه المصورة هدى قساطلي منذ أكثر من 20 سنة.
ومن ناحية ثانية يهدف عملها بشكل عام إلى نسج، لا بل تكريس العلاقة التي قوامها جدلية “الأسباب والنتائج” وليس فقط التواصل ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، في سردية فنية تنطبع في عين المشاهد وتحول الحاضر إلى مرآة تعكس من جهة ما حدث في الماضي القريب أو البعيد، ومن جهة ثانية تعكس ما يُمكن أن يحدث في المستقبل كنتاج عن ماض وحاضر، وعن حاضر يريد أن يعمي بصيرته عما وكيف آلت إليه الأمور.
وكما ذكر البيان الصحافي بأنه إن كان الدمار الذي لحق بالمدينتين الإيطاليتين سببه الهزة الأرضية، فالدمار الذي حصل في بيروت وحلب سببه البشر. أما المقصود بالبشر فليس الغريب وعدوانه بقدر ما هو القريب، أي ابن البلاد. القريب بجشعه وطمعه واستهتاره بالأبنية التراثية من ناحية، وبكراهيته للآخر الشريك في الوطن من ناحية أخرى.
ليس هذا المعرض هو الأول من نوعه للمصورة هدى قساطلي، ومن المؤكد أنه ليس بالأخير، ومن جملة المعارض التي قدمتها لها الصالة خلال سنة 2020 عند استئناف الحياة الفنية بعد نهاية فترة الحجر الصحي الطويلة، والتي تدل عناوينها مباشرة على ما تضمنته، نذكر “مخيّمات اللاجئين، عبء عدم الاستقرار” و”طرابلس الشرق، العاصمة الجامعة” و”أشجار مقدّسة، أشجار منتهَكة” و”بيروت، أيقونات الغياب”.
وأشار البيان الصحافي إلى أن في معرض “صور” تتحدث قساطلي عن بيروت من سنة الخروج من الحرب الأهلية 1990 وصولا إلى سنة 2022، أي الفترة الزمنية التي تلت انفجار الرابع من أغسطس. وفي العرض صور تظهر الفعل البشري المدمر الذي طال البيوت التراثية في بيروت، بهدف إنشاء مبان تجارية مربحة وصور ترثي بيروت بعد انفجار الرابع من أغسطس سنة 2020، الذي لم يكن حدثا طبيعيا كهزة أرضية، بل نتيجة تضافر قوى لعناصر بشرية مجرمة، الكل يعرف من هي ولا أحد يتجرأ على التصرف القانوني بحقها وفق تلك المعرفة.
في النهاية يحضر ما ذكره الناقد الفني اللبناني جوزيف طراب من ضمن البيان الصحافي المرافق للحدث الفني “يظهر المعرض كيف ساهم في تدمير المدينة أناس ليسوا على دراية بالجوانب التاريخية والمعمارية والاجتماعية والثقافية والإنسانية الخاصة بهم. أناس أصابهم الهوس بالقيمة التجارية للأشياء، وبإزاء هذا تحولت صور قساطلي نوعا من وثيقة أنثروبولوجية وثقافية تدين الفاعلين”، وثيقة تؤكد أيضا على النحو الذي ذكره إبراهيم منيمنة على صفحته الفيسبوكية أن “من يزرع خنجرا في ظهر الماضي، زرع المستقبل في صدره ألف سيف!”.
هدى قساطلي من مواليد 1960 بيروت. حازت في العام 1984 على شهادة في الفلسفة من جامعة باريس 1 بانثيون – سوربون. وفي العام 1987، قدّمت أطروحة دكتوراه في الإثنولوجيا وعلم الاجتماع المقارن من جامعة باريس. لتعود في العام 1986 إلى مسقط رأسها، بيروت، وكرّست حياتها المهنيّة للبحوث والتصوير، فاختيرت خبيرة دولية لمشروع “مدينة” الأوروبي، وعُيّنت باحثة ملحقة بجامعة البلمند وبوحدة البحوث متعدّدة التخصّصات عن الذاكرة في جامعة القديس يوسف، وفي الوقت نفسه باحثة شريكة لمركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر.


