المصالحة السورية.. هل يعود الرصاص من الصدور إلى البنادق

التفاهم الوحيد الذي أسفرت عنه الجولة السادسة لمباحثات اللجنة الدستورية السورية في جنيف، منذ أسبوع، هو الاتفاق على “جولة مقبلة”، دون تحديد موعد، وذلك من ملخص لـ4 موضوعات هي: الجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات، سيادة القانون والدولة، الإرهاب والتطرف.. وتحديد مواعيد “الجولة المقبلة”.
السعي لجعل جولة جنيف السادسة بداية لمرحلة جديدة في الملف السوري تكلل بالفشل لأن الجميع أراد له ذلك، ونجح في ما أراد الذهاب إليه، ذلك أن لا مصلحة لأي طرف، على ما يبدو، في سوريا التي يحبها ويتمناها السوريون من غير الملوثين بمحنة السلطة والزعامة، وغير الآبهين بالاستقطاب بين معارضة وموالاة.
الواضح أنّ توافق السوريين بات مربوطا بتوافق الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في النزاع، كما يصح العكس بحسب ادعاء كل جهة أي أن “الدجاجة بدها قمحة، والقمحة عند الطحان” كما تقول أغنية فيروز المستقاة من التراث الشامي.
وعلى ذكر سيرة الدجاجة، فمن يسبق الآخر في سوريا، دجاج الدستور الدائم أم بيض المصالحة؟ إذ لم يشكل فشل الجولة السادسة لمباحثات اللجنة الدستورية السورية في جنيف مفاجأة بالنسبة إلى بعض المراقبين الذين يرون أن الحديث بجدية عن دستور دائم أمر غير واقعي في ظل ظروف أمنية واجتماعية معقدة، وغياب الاستقرار، ووجود أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين والمعتقلين. وبينما يرى البعض أن المصالحة يجب أن تسبق الاتفاق على دستور دائم، يرى آخرون أن وضع الدستور سيمهد للمصالحة.. وهكذا “تضيع الطاسة” بحسب المرجعية الشعبية الشامية دائما.
اجتماعات جنيف وعودة المباحثات بشأن الدستور السوري، وبعد 9 أشهر من التوقف، تصبح عبثية لا طائل من ورائها، وليس لها تأثير دون توافق على حل سياسي في سوريا.
الأصل في الدستور هو الإجماع بحسب المشرعين وفقهاء القانون، فكيف يحتكم متفرقون في كل شيء، إلى دستور يزعم أنه سوف يوحدهم وينهي مشاكلهم في كل شيء؟
الدولة السورية من جهتها تتمسك بخروج القوات التركية والأميركية من أراضيها لدخولهم دون إذن الحكومة وقتها.
وبحسب ما يرى المحلل السياسي السوري غسان يوسف، فإن النظام ليس على خلاف مع المعارضة بقدر خلافه مع الهيئة العليا للتفاوض وتنظيمات الإخوان وداعش وجبهة النصرة والمقاتلين الأجانب من الإيغور والشيشان المتواجدين في إدلب شمال غربي سوريا بدعم تركي من جانب، ومع الولايات المتحدة الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري من جانب آخر.
أما المعارضة فتقول على لسان هادي البحرة إن وفد الحكومة لم يقدم أي ورقة للتفاهم وأصر على ألا يرى أي نقطة للتوافق، مشددا على أن الحل السياسي عبر تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 ينهي معاناة السوريين.

وهكذا يختلط الحابل بالنابل في الملف الأكثر تعقيدا بتاريخ النزاعات الداخلية، إذ لا يختلف اثنان في أن دستورا دائما للجمهورية السورية بكل مكوناتها وأطيافها، يمحو ما كتب قبله سنة 2012 أو ما سبقه من بنود وفقرات فصّلت على مقاس الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن سوف يأتي من بعده في الحزب والدولة، من شأن هذا الدستور العتيد أن يوحد بين السوريين ويجعلهم يتصالحون، ولكن.. كيف السبيل إليه دون أن يجلس الجميع إلى مائدة الحوار التي يستحيل إقامتها في هذا الظرف الداخلي والإقليمي والدولي المعفر بالخلافات والنزاعات، يضاف إليه الملايين من المشردين والمهجرين والنازحين من السوريين الذين إذا حدثهم الآن أحد عن الدستور بصقوا في وجهه.
وفي هذا الصدد، ذكّر المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون مجلس الأمن بأن أكثر من 12 مليون سوري لا يزالون مهجرين، إما كلاجئين أو نازحين داخليا، ومستويات الفقر قريبة من 90 في المئة.
“المصالحة السورية” عبارة تسهل كتابتها على الورق والتلويح بها من فوق المنابر الإعلامية والسياسية، لكنها شديدة الصعوبة إلى درجة التفكير في تأجيلها إلى عقود وأجيال، لعل وعسى أن تندمل الجراح، و”يعود الرصاص من الصدور إلى البنادق”.
الدساتير لا تغسل الأحقاد، إنما قد تصنع التآلف الاجتماعي والذود عن العيش المشترك، في المنظور البعيد وعلى مستوى الأجيال القادمة.
بين السوريين والسوريين، ما صنعته عقود من القهر والحكم الظالم، تعود إلى منتصف القرن الـ19 أيام حكم الأتراك العثمانيين وتنكيلهم بالأقليات الدينية والعرقية ثم جاء الانتداب الفرنسي على إثر معاهدة سايكس بيكو، وتتالت الانقلابات، حتى قدم حكم عائلة الأسد، وما سببته من جراح وأوجاع يراد منها الآن أن تكتب دستورا موحدا لسوريا الموحدة.
“لا يستوي الظل والعود أعوج” مقولة تصح على استحالة اجتماعات جنيف وعبثيتها حول اللجنة الدستورية في ظل مشهد قاتم لا تريد من خلاله الأطراف الراعية إلا الإيحاء بأنها فاعلة ومؤثرة، في حين أن مهمتها التعطيل، والإبقاء على الجرح السوري نازفا ومفتوحا من أجل مصالحها الإقليمية.
لا مصلحة لأحد في إنهاء الأزمة السورية من روس وأتراك وإيرانيين، وحتى سوريين من المنتفعين موالاة ومعارضة.. أما الطرف الثالث المسمى بالمجتمع المدني فهو مجرد وهم في بلد جثم عليه الحكم العسكري عقودا من الزمن وأفقده أي حس بالمدنية رغم مدنية المجتمع السوري المتجذرة في التاريخ.. ثم ما معنى “مجتمع مدني” في غياب الدستور.. هل قلت: دستور؟