المشاريع الثقافية الخاصة في تونس: فعل ثقافي أم بروباغندا

تزايدت في السنوات الأخيرة المشاريع الثقافية الخاصة في تونس والتي تحاول تحقيق المعادلة الصعبة بين الفعل الفني والثقافي القيّم وتحقيق الربح المادي. وقد تميل الكفة إلى التربّح والاعتماد على دعم الدولة، وبالتالي تصبح الكثير من هذه المشاريع الخاصة نافذة للفساد أو هي في أحسن الحالات خبط عشوائي باسم التنوير، بينما لا توجد مردودية ثقافية حقيقية.
الغريب أن المشاريع الثقافية التونسية الخاصة، والعربية على وجه العموم، تقابل بالسخرية والتهكم من الطرفين الرسمي والخاص، فلا يكفي أنها محل استهتار واستهزاء واستخفاف من طرف الجهات الرسمية، وذلك من حيث سؤالك عن “الجدوى” كباعث مشروع تريد الاستفادة من القوانين النظرية، كما أنها موقع منافسة واستعلاء من لدن الجهات الخاصة أي أن كل ما يمكن أن تقدمه من مشاريع ثقافية، هو في حقيقة الأمر محض هراء، ما لم يكن لديه جدوى.. وأي جدوى؟
وباختصار شديد، إن أنت قدمت مشروعا مسرحيا خاصا أو فنيا على وجه العموم، فإما أن تكون حاد المنفعة والاستفادة والذكاء وإما مغفلا وكثير البلاهة ومتحمسا للنوايا الساذجة.
المستكرشون الصغار
المشاريع الثقافية الخاصة في تونس، وغيرها من البلدان التي نسجت على منوالها، ليست مشاريع ثقافية بل بروبغندا نسجت على منوال هذا البلد الذي “تورّط” في الحداثة دون أن يخرج منها بـ”أخف الأضرار”.
أن تنشئ مشروعا ثقافيا خاصا في بلد مثل تونس، فهو أمر غاية في اليسر والسهولة، ويقابل بالتهليل والتشجيع من طرف الجهات الراعية والرسمية، لكن الأمر عكس ما قد نتخيله تماما.
الثقافة لدى العديد من الناس هي مشروع للاستثمار في الأدب والفكر والفن، ولكن إلى غير وجهة. ثمة قناعة لدى أهالي المهن الثقافية والفنية في تونس، هي أن أفضل طريقة لـ”نهب” ميزانية الدولة هي أن تقدم مشروعا “ثقافيا”، فلا تحاسب على جدواه وفاعليته أو طرق التصرف في موارد الدعم، وتكتفي بالقول “إنه سيخلّص البلاد وأهل البلاد من براثن الجهل والتطرف” أي أن كل ما يقدم باسم الثقافة هو ثقافي تنويري بالضرورة.. أي أن المشاريع الثقافية هي وسائل هروب نحو تهميش الثقافة وتغييبها تحت هذه الادعاءات.
المشاريع الثقافية الخاصة لم تقدم شيئا يذكر بل نافست بيروقراطية الدولة في الفساد وأنتجت دكاكين أشبه بالوكالات
الأفراد والجماعات المحلية الضيقة، لا يمكن لها أن تصنع ثقافة بالمسؤولية الكاملة عن الكلمة، ولكنها قد ترسي في أحسن حالاتها، نوعا من الحرص على ثقافة ضيقة، بغية الحفاط على امتيازاتها الجهوية والإثنية كمرصود انتخابي أو حتى اجتماعي، في أسوأ حالاته، لكنّ أن يعوّل عليها كبديل وطني، فهذا أمر بعيد المنال.
الجماعات المحلية تبقى “جماعات محلية” في أحسن حالاتها، ولا يمكن أن يعوّل عليها في استراتيجية وطنية مكتملة البناء كما هو الشأن بالنسبة إلى الغرب الأوروبي الذي استنفد البناء، وعاد يحتاج إلى الترقيع والتفصيل عبر الالتفات إلى ثقافة المشاريع الخاصة، أمّا نحن فلم ننجز العام كي نلتفت إلى الخاص أي أن الخاص يحتاج لدينا إلى ترتيبات كثيرة كي يكون خاصا.
أعرف ـشخصياـ الكثير من الأصدقاء الفنانين والمثقفين الذين تمكنوا من إنجاز مشاريعهم وعروضهم الشخصية في تونس، بمنتهى السلاسة والوضوح، لكنهم انتهوا إلى مستكرشين صغار، ينتفعون بمثل ما انتفع به غيرهم. ولم يضيفوا للمشهد الثقافي أي شيء.
قد أجرأ على القول إن بلدا مثل تونس، ترتقي فيه القوانين المنظمة للحياة الثقافية أكثر من المنتفعين بها وسط فوضى الانتفاعات والمحسوبيات، والقوانين التي لا تفرق بين المثقف وغير المثقف، خصوصا أن الحابل قد اختلط بالنابل، داخل وسط فني وثقافي يغيب عنه التجانس والفرز والانسجام.
لا تستغرب إن صادفت ممثلا أو كاتبا أو تقنيا مسرحيا أو موسيقيا يمتلك “علبة إنتاج فني” وفق التعبير التونسي المترجم عن اللغة الفرنسية، يفتخر كل من هؤلاء بـ”غنيمته” في السنوات الأخيرة، ويأخذ دوره في “طابور الدعم الإنتاجي” الذي تجود به فروع وزارة الثقافة التونسية من الأموال العامة.
غياب الفعالية

هل نتحسّر على الدولة “شبه الاشتراكية” التي ساوت بين المبدعين ـأو ربما مارست المحاباةـ ولكنها لم تمارس المساواة العمياء، واحتكرت الثقافة كأفضل ما يكون الاحتكار.
الصراحة أن المشاريع الثقافية الخاصة، لم تقدم شيئا يذكر غير أنها نافست بيروقراطية الدولة في الفساد، وأنتجت دكاكين أشبه بالوكالات والفروع.
هكذا يفرّخ الفساد حينما يريد أن يفرّخ وسط دولة تطوّر من قوانينها لكنها لا تطوّر من سلوكيات أبنائها، بمن فيهم أولئك القائمون على تطوير قوانينها.
صحيح أن المشاريع الثقافية الخاصة تزايدت أعدادها مثل الفطر والقراد، لكن فعالياتها تتراجع بل وكأنها وجدت للتراجع، والقول بأنه قد جيء بها للجم ما هو حقيقي ومسؤول.
إنها حقا مسؤولية محيرة وتطرح موضوعا غاية في الخطورة والتنبيه إلى أن احتكار الدول للثقافة، لا يعني بالضرورة، ظلم من كان في الهامش ولا يقوى على مجاراة الرسمي والمسموح، وإنما الهامش ليس هامشا دائما بل قدرة على التعطيل ووضع العصي في العجلات.
لدينا في تونس الآلاف من الجمعيات الخاصة في الأدب والثقافة والفكر والفن، حتى صرنا نتفوق عدديا على أكثر وأعتى بلدان العالم ادعاء للديمقراطية، لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا، إذ أن الجميع ينافس الجميع ويحاول أن يتفوق على الجميع، ولهذا السبب فإن المشاريع الخاصة قد زادت أعدادها وغابت فعاليتها.