المسرحيون ينحازون للتنوير في مهرجان القاهرة التجريبي

الدورة الـ25 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كانت دورة مواجهات خصوصا من خلال بعض العروض العربية التي اعتمدت في تناول موضوعاتها على مقاومة العنف والإرهاب.
الجمعة 2018/09/21
"ليلك الضحى" مزج الحقيقة بالفانتازيا

عند تتبع مسارات المسرح الحديث ومناقشة قفزاته التعبيرية والأدائية وتطوراته التقنية فإنه يجب ألا يعلو صوت على العناصر المسرحية بحد ذاتها كجماليات غائية للتذوق والتحليل، لكن الظروف المجتمعية الاستثنائية وأوقات الاشتعال قد تخلق مداخل أخرى للصناعة المسرحية، وهذا ينعكس بدوره على التلقي، حيث يعود دور البطولة المسرحية للرسالة المطروحة فنيا بعناية وحساسية من أجل الحشد الشعبي وتوحيد الصفوف لمواجهة أخطار كارثية تهدد الجميع.

القاهرة- يتصدى العرض الإماراتي “ليلك ضحى” لطيور الظلام وقوى التطرف والرجعية، وكان أحد عروض “مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي” في اليوبيل الفضي، الذي شهد انحياز المسرحيين والفنانين العرب للتنوير وحرصهم على مقاومة العنف والإرهاب بالكلمة كأبرز ظواهر المهرجان.

لم تكن الدورة الـ25 لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي (10-21 سبتمبر) دورة شعارات بقدر ما كانت دورة مواجهات، خصوصا من خلال العروض العربية التي قدمتها الإمارات وتونس والجزائر والمغرب وفلسطين وسوريا والأردن والعراق والكويت.

انحياز للتنوير

مثلت دورة اليوبيل الفضي للمهرجان انحيازا واضحا للتنوير من جانب المسرحيين والفنانين العرب، الذين قدموا أعمالا تناهض التطرف والإرهاب بامتياز، وتحاصر طيور الظلام في فضاءاتها وأوكارها، وتقترح في الوقت ذاته جماليات معاصرة متطورة كي لا تأتي الرسالة المسرحية توعوية مباشرة فينصرف عنها الجمهور.

لم يكتف المسرحيون العرب بمحور “المسرح تحت دوي القنابل”، الذي اندرجت تحته بعض العروض الخاصة من قبيل “رائحة حرب” من العراق، و”مروّح ع فلسطين” من فلسطين، و”هنّ” من سوريا، فجاءت الكثير من الأعمال الأخرى بالمهرجان محتفية بتلك الرغبة في إعلاء شأن العقل ومواجهة العنف والبارود ورفض الظلم والقهر والجمود وتعرية الأصوليين والمتشددين ونشر المحبة والسلام.

صرخة إماراتية

"الشقف" أمل في الحرية
"الشقف" أمل في الحرية

من أكثر العروض التي أخذت على عاتقها محاربة الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي المسلحة، المسرحية الإماراتية “ليلك ضحى”، التي جرى تقديمها على مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية، وهي من إنتاج المسرح الحديث التابع لجمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح، ومن تأليف وإخراج المسرحي الأردني المقيم في الإمارات غنام غنام، وبطولة مجموعة من الشباب الإماراتيين.

تتناول المسرحية صراعا مباشرا بين قوى التحرر الإنساني والاستنارة ممثلة في زوجين شابين يعملان مدرسين للموسيقى وفنون المسرح في قرية “تل قمح” المنعزلة، وقوى الرجعية والتطرف والاتجار بالدين ممثلة في جماعات الإسلام السياسي التي تسيطر على القرية وترتكب فيها الجرائم الدموية مثل ما يفعله تنظيم داعش الإرهابي في المناطق التي يسيطر عليها.

يبرز العرض الازدواجية التي يعاني منها المتطرفون، الذين يقولون دائما ما لا يفعلون، حيث يحاولون الضغط على الزوج “ضحى” من أجل تطليق زوجته “ليلك”، بحجة أنه لا يصلح لها، كونه موسيقيا ماجنا، في حين أن السبب الحقيقي هو رغبة أمير الجماعة في الزواج من مدرسة الموسيقى بعد تطليقها من زوجها.

يمزج العرض الحقيقة بالفانتازيا، من خلال رحلة هروب الزوجين بمساعدة أحد جنود الإرهابيين، الذي كان طالبا في المدرسة التي يعمل بها الزوج، ويعود الشاب الإرهابي إلى صوابه بعد لقائه بالزوجين، ويهربهما إلى إحدى قاعات المدرسة، وهناك يستعيد الشاب دوره كممثل في مسرحية عنترة بن شداد، ويختلط الواقع بالأسطورة، ويقدم الزوجان على ما يبدو أنه انتحار للخلاص من الإرهابيين الذين يحاصرون المدرسة، في حين يتحول استشهادهما المعنوي إلى صرخة حياة قادرة على الانتقام من المتطرفين وطردهم خارج البلدة.

يأتي العرض في إطار من التجريد، حيث لم يحدد مكانا ولا زمانا فعليين للأحداث، التي تجسد محنة الخير والجمال والقيم الإنسانية إزاء سيادة البطش والقبح والظلم والإظلام، ويعتمد العرض على الحركية خصوصا في مشاهد الكر والفر والاقتتال، ويقدم الزوجان اللذان يعلمان أبناء القرية الفنون الرفيعة تابلوهات موسيقية وغنائية يحيل بعضها إلى أصداء تراثية في أعمال فيروز وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ.

يحفل العرض بمشاهد شاعرية مرهفة مثل إضاءة الشموع حول الزوجين قبل استشهادهما المعنوي الذي يتحول إلى طاقة نور وحياة في مواجهة الموت والدمار. وتخفف المفارقات والقفشات الكوميدية من حدة الأحداث المليئة بالقسوة، كما في “غزليات” أمير الجماعة، الذي يتشهى مدرّسة الموسيقى، وتطارده خيالاتها الناعمة في أحلامه على نحو مثير للضحك والسخرية.

عروض تنويرية

"قهوة سادة" الفن ضد الفتاوي
"قهوة سادة" الفن ضد الفتاوي

من المسرحيات الأخرى التي واجهت طيور الظلام في مهرجان القاهرة التجريبي، العرض المصري “قهوة سادة” للمخرج خالد جلال، وهو يتصدى لظاهرة سيل الفتاوى المغشوشة في مصر والمجتمعات العربية، حيث يحرّم تجار الدين الكثير من الأمور والممارسات على المواطنين، ويحوّلون حياتهم إلى جحيم من فرط التشدد وكبت الحريات.

في إطار العروض التي تجسد آمال الشعوب العربية في السلام والعدل والحرية ومواجهة قوى التخلف والرجعية، يطرح العرض التونسي “عنف” من تأليف جليلة بكار وإخراج الفاضل الجعايبي ملامح العنف الحياتي اليومي في أعقاب الثورة التونسية، مثيرا تساؤلات حول مدى نجاح الثورة في تحقيق أهدافها على أرض الواقع، وكيف يمكن اجتثاث جذور العنف، ونشر التسامح والمحبة وثقافة احترام الآخر.

يلتقي العرض الجزائري الفرنسي “الحارقون”، والعرض التونسي الكندي “الشقف”، في التعبير عن الواقع العربي السوداوي بفعل قوى الظلام ودعاة العنف، حيث تقود الحروب والاضطرابات والأزمات والصراعات إلى اغتراب المواطنين في بلدانهم، وسعيهم إلى الهجرة غير الشرعية إلى الخارج، حيث يلاقون مصيرا بائسا، أو يموتون خلال رحلة الهرب المدمرة.

يقدم العرض العراقي “رائحة حرب”، من إخراج عماد محمد وإنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل، مظاهر التطرف المجتمعي من خلال حالة فردية لمحارب يتحول إلى متشدد، ليسجن أفراد عائلته في بيت بجوار مقبرة، ويمارس عليهم شتى ألوان الترهيب، لإخضاعهم لأفكاره المتطرفة. ويصور العرض التعصب الديني كوجه من وجوه التشوهات النفسية التي تتعاظم في أعقاب الحروب والاضطرابات.

15