المخصصات الأميركية للأردن.. بين المساعدة والواجب

منذ تأسيس الدولة الأردنية كانت الحكومات تعتمد بشكل تام وكامل على ما تخصصه لها دولة الانتداب بريطانيا في ذلك الوقت من مخصصات مالية تشمل كافة الموازنات لقطاعات تسيّر الدولة، في حين لم تقدم فيه أي دولة عربية أي معونات أو مساعدات للأردن بسبب ضيق الحال ولانشغال القادة بتأسيس دولهم أو لأنهم تحت الانتداب أيضا، وقد يكون هذا حال باقي الدول العربية كذلك، حيث كانت تحكمها معاهدات مع بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة.
وقت التأسيس وحتى سنوات طويلة لم تقدم أي دولة عربية أي معونات أو مساعدات للأردن بأي شكل من الأشكال؛ فقد كان الأردن يتلقى كما هو الحال في الدول العربية الأخرى الموازنات المالية من دول الانتداب ضمن مفهوم إنشاء الدول العربية ومقررات عصبة الأمم وما يعرف بقانون التبعية السياسية والدبلوماسية للدول العظمى.
وقد تعرض الأردن كثيرا للتهديد بخفض هذه الموازنات والمخصصات في فترات مختلفة ومتعددة كما أنه تعرض في بداية التأسيس من قبل سلطات الانتداب البريطاني للكثير من التحذيرات ومنها إنذار الأمير عبدالله الأول بخفض المخصصات على خلفية المساعدات التي يقدمها شرقي الأردن لإخوانه في سوريا ودعم الثورة السورية في مقاومة الانتداب الفرنسي واستقبال الثوار السوريين في الإمارة، آنذاك وجد الأردن نفسه أمام قرار وقف المساعدات المالية التي تسميها بعض القوى بالمجانية لشرق الأردن، وأنا هنا أعجب من هذا الوصف بالمجانية، الدعم المالي هذا واجب على الدول العظمى، أو أي بلد يريد أن يتسيد الموقف العالمي، ويحافظ على مكانته كدولة عظمى تسير الدول الأخرى في فلك التبعية لها، وهي ليست مجانية أو هبة أو منة من قادة الدول العظمى، بل هي حق وواجب للدول التي أصبحت تحت حكمهم المباشر، لا بل وتحت إدارتهم المباشرة، من خلال موظفيهم المعينين في الدول الخاضعة لهم، والتي تتعامل مع إدارة القوة ومفاهيم وموازين السياسة، كيف لا وهم قادة دول الانتداب المفوضين من عصبة الأمم.
كانت الدول العربية آنذاك، والأردن بالخصوص، تتلقى كغيرها في الشرق وفي مناطق التبعية لبريطانيا العظمى المصروفات والموازنات المالية اللازمة لتسيير دفة الحكم، وهذا أمر طبيعي في حال أرادت دولة عظمى فرض سيطرتها على إدارة النظام العالمي فهي مجبرة على تقديم الموازنات المالية لهذه الدول التي أخضعتها لحكمها، ليس منّة منها ولا بدعة، فهذا الوضع متبع منذ وجود الإدارة الكونية في الدول القديمة، والتي كانت ترتب الأمور العسكرية والمالية والإدارية في المناطق الخاضعة لنفوذها وتقدم لها المخصصات المالية و/أو تعفيها من الجزية أو الضرائب بشرط عدم المساس بالمصالح.
القرار الذي اتخذه ترامب مع بداية توليه الحكم في الفترة الثانية له، ليس وقفاً للمساعدات بشكل نهائي وإنّما هو تعليق لها إلى حين مراجعتها
إن الحديث الدائم بخصوص موضوع الموازنات المالية التي تقدمها الدول العظمى للدول التي تسير في فلكها السياسي، وتقديمها ضمن مصطلح “المساعدات”، وعلى أنها منّة من هذه الدول وشعوبها على الدول الأخرى التي تتلقاها معلومة مغلوطة، وفي الحقيقة هذه المخصصات تأتي ضمن مفهوم الواجب الواقعي والمفروض على هذه الدول، وتحسب معرفيا ضمن معايير تحمّل الدول العظمى لواجباتها في سبيل إحكام سيطرتها على المناطق في حدود التنافس العالمي لتزعم إدارة العالم.
ثم وبكل غباء وسطحية يتم الحديث من قبَل بعض الأشخاص والكُتاب عن أن المخصصات المالية التي تقدمها هذه الدول هي “مساعدات مالية”، هذا الكلام أعتقد يجانبه المنطق والواقع وإدارة رقعة الشطرنج السياسية، فالدول العظمى كما لها مصالح عليها التزامات، وهذا قانون النفع المتبادل، فبريطانيا مثلا عندما كانت منتدبة على الأردن لم تقدم للأردن الموازنة المالية محبة في الشعب العربي والإسلامي الأردني فقط، ولكن ضمن تفهم حقيقي وواقعي لموازين السيطرة والقوة في العالم، والتي كانت تدرك بريطانيا آنذاك، بكل هذا التاريخ الحافل لها، مفهوم الواجبات والمصالح والحقوق السياسية والتنظيمية التي لها وعليها.
وبعد خروج بريطانيا العظمى من المنطقة تنافست قوتان هما الرأسمالية ممثلة في الولايات المتحدة والشيوعية الاشتراكية ممثلة بالاتحاد السوفييتي، وتقاسمتا الدول الأخرى في العالم، وأصبح واجبا عليهما الحلول مكان دول الانتداب وتغطية مكان ومكانة وإدارة القوة العظمى التي خرجت منها فرنسا وبريطانيا، وعليه بقيت الولايات المتحدة تسدد ما عليها من التزامات لهذه الدول الحليفة ولكن تحت مفهوم جديد -المساعدات من الشعب الأميركي.
في الفترة السابقة وعند التأسيس فهم عبدالله الأول ثم الملك الراحل الحسين ضرورة التعاون من أجل استمرار المخصصات لدعم الدولة والحكومات؛ ففي عهد الحسين تمخض عن إلغاء المعاهدة الأردنية – البريطانية عام 1957 توجه الأردن نحو القطب الجديد في العالم الولايات المتحدة التي أصبحت مسؤولة عن تأمين احتياجات الأردن، فقدمت الولايات المتحدة المخصصات الواجبة (ضمن مفهوم المساعدات) اقتصاديا وعسكريا للأردن في 1951 و1957 على التوالي.
ثم في بداية عهد الملك عبدالله الثاني ترسخ مستوى مفاهيم التعامل مع الإدراك السياسي في العقل الحاكم الأردني ضمن مفهوم سياسة وواقعية التعامل، من خلال تطبيق سياسة الأخذ والمطالبة، وهي التي عرف بها البيت الهاشمي الحاكم في الأردن، فلم يكن يستخدم أسلوب الرفض المطلق، ولا القبول المستمر، بل كان يتعامل مع القوة العظمى بالفن السياسي المحكم.
وفي الوقت الحاضر، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة الحليف الإستراتيجي للأردن بشكل تام، وكذلك للعديد من دول المنطقة وخصوصا الدول العربية، توثقت علاقات الصداقة التي بدأها الملك عبدالله الأول مع الرئيس الأميركي هاري ترومان عام 1950 عبر كل تلك الرسائل والمحادثات التي تمت بينهما وخصوصا محادثات إحلال السلام التي كان يقوم بها عبدالله الأول من خلال سفير الأردن في واشنطن يوسف هيكل.
الحديث اليوم عن أن الولايات المتحدة أصبحت تقوم بوظيفة الجابي وليس الحاكم المتسيد للنظام العالمي سيترك آثارا سيئة تعيد حسابات الدول
فقد بلغ إجمالي المخصصات (المساعدات) الأميركية (التي تشرف عليها وزارتا الخارجية والدفاع) للأردن حتى السنة المالية 2023 ما يقرب من 28.5 مليار دولار، تشكل المخصصات ( المساعدات) الأميركية للأردن أكثر من 40 في المئة من إجمالي مبلغ الدعم الدولي الرسمي الذي تتلقاه المملكة سنويًا. ويدعو العديد من المختصين الأميركيين إلى الاستمرار في تقديم المساعدات الأميركية السخية للمملكة كون الأردن يشكل صوت الاعتدال في منطقة ملتهبة.
وفي عام 1996 منحت الولايات المتحدة الأردن وضع حليف رئيسي غير عضو في حلف شمال الأطلسي، وهو التصنيف الذي يجعل الأردن، من بين أمور أخرى، مؤهلاً لتلقي المواد الدفاعية الأميركية الزائدة والتدريب وقروض المعدات للبحث والتطوير التعاوني. وخلال العقد الماضي قدمت الولايات المتحدة 52.6 مليون دولار من المواد الدفاعية الأميركية الزائدة إلى الأردن، بما في ذلك ثلاث مروحيات من طراز AH – 1 كوبرا وحاملات طائرات القيادة المجنزرة M577A3.
وفي 16 سبتمبر 2022 وقعت الولايات المتحدة والأردن مذكرة التفاهم الرابعة التي تحكم المساعدات الخارجية الأميركية للأردن، وتلزم الاتفاقية التي تمتد لسبع سنوات (السنة المالية 2023 – السنة المالية 2029)، والتي تخضع لتخصيصات الكونغرس، الإدارة بالسعي إلى الحصول على ما مجموعه 1.45 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية السنوية للأردن. ومقارنةً بمذكرة التفاهم السابقة، فإن مذكرة التفاهم الرابعة هذه أعلى بنسبة 13.7 في المئة سنويًا وتستمر لمدة سبع سنوات مالية بدلاً من خمس سنوات.
إنّ القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب مع بداية توليه الحكم في الفترة الثانية له، ليس وقفاً للمساعدات بشكل نهائي وإنّما هو تعليق لها إلى حين مراجعتها، وضمن سياسة ترامب من أجل الضغط على الأردن لقبول أجندات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط التي لا يعارضها الأردن بشكل مطلق ولا تتعارض فيها سياسة البلدين خصوصا في الاقتصاد الحر وضمان التعاون العسكري والأمني والدبلوماسي، إلا تلك المواضيع التي تدخل في ما يخص الضفة الغربية والمقدسات والوصاية الهاشمية، والأخطر اليوم موضوع التهجير من غزة حاليا، وقد تكون الضفة ثانية.
أخيرا إن قيام الرئيس ترامب بهذا العمل ربما هو ما ينذر بانتهاء عصر السيطرة الأميركية المطلقة على تسيير الأمور كدولة عظمى يتوجب عليها الذهاب إلى دعم الدول الحليفة، والحديث اليوم عن أن الولايات المتحدة أصبحت تقوم بوظيفة الجابي وليس الحاكم المتسيد للنظام العالمي سيترك آثارا سيئة تعيد حسابات الدول وتجعل الحديث مع الولايات المتحدة حديثا ماليا وليس حديثا سياسيا، وتحول واشنطن إلى دولة جامعة للضرائب وليست دولة عظمى تسيطر وتحكم بسياسة المنافع المتبادلة، يجب أن يتم استيعاب أن ما تقدمه الولايات المتحدة أو غيرها للدول التي تسير في فلك التبني السياسي والمصلحي يجب أن يكون ضمن تصوّر أن هذه الأموال الداعمة هي صك مخصصات وليست صك مساعدات.