المبدعون الجدد يستلهمون السير الشعبية والملاحم في أعمالهم

عندما تقسو اللحظة الراهنة وتستحكم حلقاتها يصير الارتداد إلى الوراء وإلى الملاحم الشعبية حلاّ جماليّا مقبولا يحمل قدرا من الحرية والامتداد ويمنح المبدعين والفنانين مساحة من التحرّر في تعبيرهم عن قضايا العصر وأزماته وصراعاته المستجدّة من خلال الإسقاطات التي يقوم بها المبدعون في الآداب أو الفنون على حد السواء.
ذهبت الكثير من الآداب والفنون العربية إلى صفحات التاريخ وأحداثه الزاخمة، إلا أن أعمالا أخرى شعرية وسردية ودرامية وتشكيلية لجأت في الفترة الماضية إلى السير الشعبية والملاحم والبطولات وغيرها من روافد الفلكلور العربي، للإسقاط على الواقع الحالي وتعريته بصيغ حديثة ومعالجات مبتكرة.
في إطار الالتفات إلى الموروث الشعبي، المصري والعربي، لقيت السيرة الهلالية أو تغريبة بني هلال الاهتمام الأكبر من المبدعين، بوصفها القصة الملحمية الأبرز والأطول في الذاكرة الجمعية، وهي تتقصّى حياة بني هلال منذ خروجهم من ديارهم في نجد حتى وصولهم إلى تونس، ومن أبرز أبطالها وشخوصها الأمير أبوزيد الهلالي والزناتي خليفة، وتعدّ مصدرا أصيلا للثقافة الشعبية العربية بوجه عام.
وتلقّف الأدباء والفنانون والرسّامون أعمالا شعبية أخرى في نتاجاتهم المعاصرة، تنطوي في أغلب الأحوال على بطولات خارقة وأساطير وخرافات ومغامرات تشويقية وحكايات عاطفية ملتهبة وأجواء مثيرة باعثة على الحيوية والتفاؤل، مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة الظاهر بيبرس، وملحمة أدهم الشرقاوي، وحواديت ألف ليلة وليلة، وقصة ياسين وبهية وغيرها من الأعمال الباقية عبر الزمن، التي استُدعيتْ من أجل ما فيها من روح الانتصارات وملامح الطاقة الإيجابية، عسى أن ينتعش الحاضر البائس، الذي تكاد تختفي فيه إشعاعات الأمل.
التغريبة الهلالية
من تمثّلات “السيرة الهلالية” في الأيام القليلة الماضية ما شهده بيت السحيمي الأثري في شارع المعزّ لدين الله بالقاهرة الفاطمية من تقديم “ليالي السيرة الهلالية”، التي رواها الفنان عزت السوهاجي وفرقته ضمن فعاليات برنامج قطاع صندوق التنمية الثقافية خلال شهر رمضان.
كما افتتحت في رمضان أيضا مسرحية “التغريبة بنت الزناتي” بمسرح “البالون”، من إنتاج الفرقة القومية للموسيقى الشعبية، وإخراج منار زين. واستوحت جوانب من السيرة الهلالية برؤية جديدة ذات طابع أدائي حركي موسيقي بالتركيز على تفاصيل الصراع بين دياب بن غانم و”سعدى” بنت الزناتي الخليفة التي سلمت مفاتيح بلادها تونس لبني هلال وفق التصور المسرحي، وكانت سببا في مقتل والدها الحاكم الزناتي خليفة.
وقد تمكّن العرض من إبراز لواعج العشق والمشاعر الإنسانية المرهفة من بين ثنايا سطور السيرة الهلالية، بتكنيك سينمائي ولغة شفيفة استخدمت تعبيرات الجسد وإيماءاته بمرونة، إلى جانب النص المكتوب؛ على هامش الملحمة الشعبية.
ومثلما أوضحت المسرحية احتياج العصر الراهن إلى أنبل ما يفقده الواقع والإنسانية، وهو “الحب الصادق الذي يتطلب التضحيات”، فإن التناول الغنائي والإنشادي الحديث للسيرة الهلالية استدعى الكثير مما تتضمنه من قيم ومُثل أخلاقية وحكم ومواعظ.
واستحضر العمل مجموعة الأغنيات الشعبية للمنشد الشاب وائل الفشني، التي انفتحت على تغريبة بني هلال ومربعات “ابن عروس” والإنشاد الصوفي والمواويل الصعيدية والترانيم الكنسية. إلى جانب “الأبوذية” (أحد أنواع الشعر الشعبي العراقي) وألوان فلكلورية متجانسة، واستعانت بموسيقى الجاز والإيقاعات الأفريقية، وظهرت بعض هذه الأعمال في تترات الدراما التلفزيونية، كما في مسلسلي “واحة الغروب”، و”طايع” وغيرهما.
ولجأت أعمال مسرحية أخرى إلى مزج تغريبة بني هلال العربية ونصوص من الأدب العالمي معا لتوسعة دائرة التعاطي مع الموروث، وطرح قضايا معاصرة أكثر عمقا وتشعبا، كما في عرض “السيرة الهلامية” من تأليف الحسن محمد وإخراج محمد الصغير، الذي ظهر فيه “هاملت” شكسبير بطلا للتغريبة، كما حلّ أبوزيد الهلالي محلّ المُنتقِم في مسرحية شكسبير “أكون ولا ما أكونش؟ آخد بالتار ولا ما آخدش؟” (باللهجة الصعيدية)، في إطار كوميدي استعراضي ساخر، ما أبرز التناقضات والانقسامات الداخلية للإنسان، خصوصا في مواجهة الخيانات والإخفاقات وغيرها من سوءات العصر الحالي، وكل العصور.
ولتغريبة بني هلال حضور واسع في سائر الفنون والآداب المصرية والعربية منذ سنوات طويلة، كما في مسلسل “السيرة الهلالية” ذي الأجزاء الثلاثة في أواخر التسعينات من تأليف يسري الجندي وإخراج مجدي أبوعميرة، والفيلم السينمائي “أبوزيد الهلالي” في الأربعينات للمخرج عزالدين ذو الفقار، وغيرهما من الأعمال الدرامية.
قصائد وروايات ومسرحيات ومعارض تشكيلية تتغذى على "تغريبة بني هلال" وأخواتها من السير الشعبية بمعالجات متجددة
وفي أبيات “السيرة الهلالية” الشعرية التي نسجها الخيال الشعبي وأكسبها رداء فضفاضا مليئا بالمبالغات في رسم الشخصيات واختلاق المئات من القصص الفرعية الأسطورية، غاص شعراء العامية والرواة والمنشدون، وعلى رأسهم عبدالرحمن الأبنودي الذي قدّم السيرة الهلالية في مشروع ضخم متعدد الأجزاء، واقترن اسمه في توثيقها بالسيد الضوي، الذي اشتهر بروايتها على أنغام الربابة لسنوات طويلة قبل رحيله في 2016.
وقد اتخذ هذا الاتجاه الشعري الحكائي مداخل إلى الشرف والمجد والبطولة والفروسية، باعتبار أن هذه الأيقونات التراثية مفقودة أو نادرة في العصر الراهن المليء بالهزائم والانكسارات.
وعلى الدرب ذاته في توليد المفارقة بين الماضي والحاضر، مضى الكثيرون من شعراء العامية المصرية، مثل عبدالستار سليم، وهشام الجخ، وآخرين. وفي السرد الروائي المعاصر، حضرت تغريبة بني هلال بقوة، كما في رواية “غرَّبْ مالْ – ما لم يحكه جرمون في السيرة الهلالية”، للكاتب المصري أحمد عطا الله.
وفي الرواية، التي حصدت جائزة الدولة التشجيعية العام الماضي، اختلطت السيرة الهلالية بالتاريخ الشخصي للمؤلف، إلى جانب الإسقاط على نكبات الوطن الجريح، الذي تحولت الحياة على أرضه، وخارجها، إلى محطات اغتراب وفقدان.
حكايات وملاحم
لم يتوقف استلهام الأعمال الإبداعية الحديثة لحكايات التراث الشعبي وملاحمه على السيرة الهلالية، فجاءت سيرة بطل المقاومة الشعبي أدهم الشرقاوي منبعا لمسرحية “الأدهم” لشباب المعهد العالي للفنون المسرحية في أكاديمية الفنون بالقاهرة؛ من تأليف نبيل فاضل وإخراج منار شملول.
وسعت المعالجة الفنية إلى تجسيد الواقع الراهن من خلال أقنعة الماضي وشخوصه، وتجاوزت المسرحية أحداث الفيلم السينمائي “أدهم الشرقاوي” في عام 1964، من تأليف زكريا الحجاوي وسيناريو سعدالدين وهبة، في تصويرها “البطل الشعبي” كقطب مركزي يجتذب حوله الفقراء والمقهورين والمغدورين، لمواجهة الظلم ومنظومة السلطة والفساد، والدعوة إلى الثورة والتمرّد والمقاومة وإعادة الحقوق لأهلها.
واتخذت مسرحية “بهية” للمصممة والمخرجة كريمة بدير من حكاية ياسين وبهية في الفلكلور الشعبي منصة لإطلاق سهام العشق والدم والثورة والسياسة والنقد الاجتماعي. وبغض النظر عن أصل شخصية “ياسين”، وما إذا كان مُجْرمًا طاردته العدالة في سنوات القرن العشرين الأولى، أو إنسانا شهما شجاعا وهب حياته للتصدي للظلم والباطل، فإن المسرحية (في إسقاطها على الحاضر) قد أنزلته منزلة البطل الشعبي والقائد المخلّص من الظلم والقهر، المناصر للفلاحين الضعفاء على الإقطاعيين المستغلين، وحامل مشعل الثورة في وجه السلطة المستبدة وأعوانها.
ولحكايات ألف ليلة وليلة نصيب كبير كذلك من الحضور في الإبداعات الحديثة، كما في معرض التشكيلية إكرام عمر (81 عاما) بغاليري “خان المغربي”، الذي وازنت فيه بين أجواء “ألف ليلة وليلة” السحرية العجائبية، وعوالم رواية “ليالي ألف ليلة” لنجيب محفوظ، منطلقة من هذه الأقمشة التراثية نحو تصوير الحاضر الحيّ بعيون ناقدة، حيث لم تعد “جنة الله على الأرض” تُنشد إلا في المدن الأسطورية والمندثرة. أما مدن الحاضر، فإنها للغبار والضجيج والنسيان.