اللبناني طارق القاصوف يرمّم الصرح الوجودي

يشارك الفنان اللبناني طارق القاصوف جمهوره أسئلته الوجودية التي يبحث لها عن إجابات ويقدمها إلى المتلقي في إنجازاته التشكيلية، وهذه المرة يقدم صياغات هندسية ومنحوتات ابتكرها من إحساسه بالفقد ومن الأفكار الوجودية دائمة الضجيج داخل مخيلته.
ورد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال “اذكروا هادم اللذات”. وما هادم اللذات إلا الموت. أما “الفقد” فيمكن اعتباره المعنى الذي يطال كل درجات وظلال الموت دون أن يكونه.
الفنان اللبناني طارق القاصوف يغوص في إحساس الفقد هذا وفي أبعاده الماورائية بعيدا عن الميلودرامية ليخرج ببصريات مُعبرة ترتقي إلى مستوى “حالة” أهم مميزاتها أنها غير معنية بالمشاعر الهشة والتأملات المحدودة والأوجاع الجسدية المعهودة لتتقمص أشكالا ومعادلات هندسية/بصرية متنوعة تقيم توازنا فنيا وفلسفيا على حد السواء، توازنا يرسي الصمت والسكينة حتى في أقسى معاني درجات الفقد الذي كشف عن ذاته من خلال لغة الهندسة العالمية.
تقدم صالة صالح بركات اللبنانية حتى آخر شهر أغسطس القادم معرضا للفنان اللبناني متعدد الوسائط طارق القاصوف تحت عنوان، إن أردنا تعريبه حرفيا من الإنجليزية إلى العربية، “كل آت قريب”. غير أن الناظر إلى أعمال الفنان في المعرض وإلى ما قدمه سابقا وإلى ما قاله في مناسبات مختلفة وما يقدم به معرضه الحالي سيعرّب عنوان المعرض إلى “غدا هو الآن”.
فالمستقبل حاضر في أعماله وفي المدّ الذهبي الذي يحيط ويتداخل ويمتد خلف أشكاله أو يركن في فراغ الشقوق المستقيمة وفي المساحات الضيقة بين الأشكال، سواء كان ذلك في المنحوتات أو في اللوحات. أما الحاضر فموجود في كنف المستقبل الذي تحاذي لامرئيته النسبية كل ما هو ذكرى من ماض بعيد توالدت منها الأشكال أفقيا وعموديا.
ويذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن ما يقدمه الفنان هو “محاولة بلوغ نوع من التأقلم مع واقع الحال الذي يأسره الحزن. وهو أيضا بحث في المشاعر الإنسانية وردود الفعل الأولية أمام الفقد بأنماطه المختلفة. ينطلق المعرض بداية من التأمل في مدينة كثيرة التناقض وهي بيروت حيث يرتع الموت والحياة وعدم الاستقرار وتتالي الحوادث المفجعة، وصولا إلى ما يحدث في العالم من مآس. غير أن الفنان يريد من نصه الفني أن يبث الأمل في نفوس الناظرين إلى أعماله لعل في هذا التأمل بداية لحياة يقلّ فيها الرثاء ويكثر فيها التفاؤل.
ويشير البيان الصحفي في هذا الصدد إلى أن معرض طارق القاصوف الذي يضم 50 عملا فنيا متنوعا يأخذ المُشاهد إلى زيارة خمس مراحل متتابعة من الحزن وهي: الإنكار والمساومة والكآبة والرضوخ للأمر الواقع ومن ثم الوقوع على هذا السؤال المدوي “من أنت الآن؟”.
وأورد البيان كلمات الفنان هذه حول أعماله المعروضة “بيروت لم تعد كما كانت خلال السنوات القليلة السابقة. مجروحة ومتشنجة في انعدام الحركة. الحياة القديمة ولّت ولم يعد بالإمكان الرجوع إلى أية حالة سابقة. ولكن قبل الحديث عن مشاركة الناس أحلامهم المزهرة مع بعضهم بعضا يجب الاعتراف ومشاركة الشعور بالهلع الجماعي الذي أصابهم. هذا المعرض هو نداء جاد للتفاؤل؛ دعوة إلى رحلة في تأمل الذات”.
من ينظر إلى أعمال الفنان والمهندس طارق القواص سيدرك أن حالة القبول والتأقلم والتأمل ذات المراحل الخمس التي يتحدث عنها الفنان تنطلق أولا من الاعتراف بأن حالة “الفقد” المؤلمة هي جزء من الحياة، بل منارة ذهبية (يستعمل الفنان اللون الذهبي المشير إلى الماورائيات لاسيما المقدس كظل لأشكاله الهندسية التي تنفتح في أعمال عديدة كمسارات تأخذ الناظر إليها إلى ما هو خلف هذه الحياة وما خلف هذا الواقع المادي الضيق)، منارة ذهبية تعيد الإنسان إلى صوابه حين يختل به التوازن وحين ينسى ما اختبر من مآس وما شعر به من ضعف، وما آلت إليه أمور الغرور ونكران كل ما هو خارج فلكه الشخصي.
إن أردنا تشبيه مجمل أعمال الفنان في الصالة فيمكن تخيل مشهد ليلي واسع لقرية بعيدة حلّ عليها الظلام وتلألأت بمصابيحها كنجوم في سماء عميقة. وعلى الرغم من ضخامة العديد من الأعمال النحتية في المعرض، يبقى هناك شعور بما يخطف خطفا وما يخطر ويومض ويموت ويحيا في أشكال أو في بُعد آخر خارج هذا العالم المادي. ثمة أمل، ولكن ليس خارج الحزن. أما الأضواء فلا تظهر بقيمتها الحقيقية إلا حين تومض في الظلام.
واستطاع الفنان أن يعبر عن مرور الزمن في عدة أعمال نحتية بعضها ينتصب قرب بعض، وجعل الظل في بعض لوحاته ضوءا ذهبيا والصورة الأصلية مجرد وهم. وأكثر ما يلفت الانتباه في أعمال طارق القاصوف هو هذا التنوع الشديد لدى تناوله العناصر الهندسية ذاتها كالمكعب مثلا. فهو في كل عمل يكتسب هيئة مختلفة تحت سلطة التناغم تارة والتنافر تارة أخرى بين النور والعتمة. وهو يظهر في إحدى لوحاته متكاثرا مُرتجّا كموسيقى كونية تحافظ على توازنها “العلمي” ولكن دون أن تفقد، على الأقل في عين المُشاهد، صفة الارتجالية التي تفتح المكعب والمستطيل والمثلث إلى هيئات ووظائف مختلفة لا تعرف الاستقرار حتى وهي في خضم توازنها.
أما سؤال كيف استطاع طارق القاصوف الإمعان في التحدث عن الإحساس بالفقد، الذي كما قلنا آنفا هو أهم ما يرافق كل إنسان ويحفر في وجدانه عمقا بعد عمق، من خلال أعمال تبدو لأول وهلة شديدة البرودة، فهو سؤال جوهري. فقد استطاع الفنان التعبير عن حالة الفقد باتخاذه صفة التوازن الشكلي كالعامل أو العنصر الأساسي في التأليف. والتوازن حين يبلغ أشده يحيل إلى برودة علمية وموضوعية فائقة.
جمع الفنان في أعماله النار والجليد بفضل هذا التوازن في الأشكال والخطوط والألوان القليلة التي لم تتخط الأبيض والأسود والذهبي والرمادي. وتمظهرت البرودة المُلتبسة التي تذكرنا بألم الاحتراق الذي نشعر به حين نضع يدنا على قطعة جليد بالغة التماسك، حضرت في تكور الأشكال بانسياب غرافيكي دقيق، وفي غياب الألوان واختصار الخطوط واحتداد الأشكال الهندسية وتضخم المنحوتات الحجرية في نصب شاهقة تطل على الإنسان/التفصيل الأدنى من الكون (لو كان يتذكر).
ولا يأتي هذا التوازن إلا بعد الشعور بالفقد، والأهم من ذلك بعد إدراك وجوده ذهنيا وشعوريا في الوقت ذاته، أو تباعا. لا يهم. ما يهم هو هذا الشعور الجوهري بالفقد الذي يجعل الإنسان أكثر إنسانية وأقل عدوانية تجاه الآخر، ويجعله أيضا يشيد صروحا كصروح الفنان طارق القاصوف، صروحا تحتضن النور وتصدّره، تجاور العتمة وتقيم دوما حسابا لـ"هادم اللذات".