اللبناني شارل خوري يطلق كائناته حرة في فضاء لوحاته

قدمت صالة “مارك هاشم” في بيروت معرضا فرديا للفنان التشكيلي اللبناني شارل خوري تحت عنوان “ما وراء الحدود”، استمر حتى الثاني والعشرين من نوفمبر الحالي، وعرض أكثر من ثلاثين لوحة مشغولة بالإكريليك والألوان المائية ومعظمها ذات أحجام كبيرة.
بعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة على بداية مسيرته الفنية الحافلة بالمعارض التشكيلية الفردية قدم الفنان شارل خوري معرضا جديدا منذ أكثر من أسبوع يمكن اعتباره محطة جديدة لم يتخل فيها الفنان البتّة عن كائناته البدائية والغرائبية التي سكنت لوحاته بداية في المغاور العتيقة التي انشأها الفنان بأسلوبه الخاص مُلتبسة وواضحة المعالم في آن واحد، ولاحقا في فضاء لم يخل من الإشارات والرموز التي حضرت سابقا في لوحاته.
اعتاد الفنان عبر السنوات ألا يقدم كائناته إلا بعد أن تكون اكتسبت تحولا جديدا وسمات لم تكن حاضرة من قبل في اللون والأشكال والأجواء والمنطق العام.
وعندما نقول “كائنات” فإننا بالطبع لا نقصد فقط الشخوص الغرائبية، ولكن أيضا كل ما ظهر في لوحاته كهيئات مستقلة ومتداخلة مع بعضها البعض. منها ما كان يشبه الحشرات والحيوانات في معارضه السابقة ومنها ما هو عبارة عن أشكال هندسية متقطعة، ولكن تكشف عن حياة خاصة ووعي مُلحق بتلك الحياة تتحرك وفقها الكائنات على قماش اللوحات، وتقيم اتصالات مع ما جاورها في مساحة وجودها ومن تفاعل معها من كائنات أخرى.
وحضرت في المعرض لوحات، ربما اثنتين فقط، اختصر فيها الفنان ألوانه بلونين اثنين وقال لنا إنها قد تكون بداية لأعمال أخرى تتشكل ببطء في داخله.
بدت كائنات شارل خوري في معرضه “ما وراء الحدود” وفي بعض اللوحات وكأنها ولدت من بعضها البعض ليس لتعيش منفصلة، بل لتكون بنيانا واحدا ومتماسكا اخترقته خطوطا وهيئات شكّلت بدورها طبقة أخرى من الوعي/الوجود نمت حتى اكتسحت جزءا كبيرا من فضاء اللوحات. غير أن هذا “الفضاء” لم يكن حاضرا بشكل بديهي في لوحات الفنان وقلّ ما كان حضوره غير مشحون بأجسام وخطوط متنوعة كانت هي بحد ذاتها مسطّح تضج عليه الأشياء والكائنات العلنية والسرية سطوعا وخفوتا بين الظلال وتوهج الأنوار التي كثيرا ما كانت تحضر وكأنها بصيص مشتعل في مُقعر مغارة أو على جدار مائل حتى أسفل أو عمق اللوحات.
وكانت أيضا تتشكل فيها بحيرات اصطناعية ذات زوايا واضحة تغلي فيها ألوان متفجرة، تكاد تُغرق كل ما يسبح في داخلها أو بمحاذاتها من كائنات أو أشكال غامضة هي في قيد التكوين أو على وشك الاضمحلال.
الفضاء في لوحاته الجديدة أصبح فضاء بكل معنى الكلمة وقد أنجزه الفنان بهدوء جليّ وناصع الملامح فأصبح مكانا جغرافيا، مكانا تتجوّل فيه الكائنات أو تحتشد فيه منتصبة برؤوسها الكبيرة والشبيهة بالمثلثات غير المكتملة التي اعترض الفنان اكتمالها بمسحات لونية بارزة وجريئة.
في معظم لوحاته الجديدة لم يعد الفضاء كما في معارضه السابقة عنصرا من عناصر اللوحة، بل حمّالا لها. وتخلّت العديد من الكائنات عن ثلاثية أبعادها ربما لأن النور في لوحاته هو الآخر لم يعد كالسابق بشكل عام: نسيجا حاك به الفنان الخرافات والكوابيس والأساطير في وميضه وتلاشيه. بل تعرّض هو الآخر إلى تحوّل بارز. لم يعد نورا، بل أصبح ضوءا وشتان ما بين الاثنين. تميز هذا الضوء “باصطناعيتة”، إذا صح التعبير. انقشاعات حادة وانفجارات ساطعة بشكل لطخات كاسرة في بعض الأحيان ومنتمية إلى عالمنا المعاصر والجارح.
لذلك يمكن القول إن كائنات شارل خوري السحيقة التي تعرفنا عليها سابقا خرجت من مغاويرها مرتدية حلة معاصرة وأنيقة لتمارس حريتها، ولكن أيضا، وفي العديد من اللوحات، غير متعاطفة مع بعضها البعض.
نذكر في هذا السّياق إحدى اللوحات حيث يتقابل شخصان في فضاء رحب شبه خال من الأنسجة الحية التي كانت تعج في لوحاته السابقة، وهما في تواصل سطحي غير حميمي يذكرنا بكيفية لقاء ناس هذا العصر: بخفة الحديث العابر الذي يليه مباشرة زوال لأهمية اللقاء بعيد أن يأخذ كل واحد منهما طريقه إلى مكان آخر حيث لقاءات أخرى سطحية ومؤقتة هي الأخرى.
هل تخلصت كائنات شارل خوري من هواجس الحرب ونتائجها؟
كائنات شارل خوري بدت وكأنها ولدت من بعضها بعضا ليس لتعيش منفصلة، بل لتكون بنيانا واحدا ومتماسكا
شارل خوري منذ بدايته سرد مشاهد من العالم المحيط المأزوم والبيئة الطبيعية الذي تعرضت لشتى أنواع التنكيل بأسلوبه الفني الخاص وإن توهجت أعماله كذلك يكون الأمر في عدة مرات بكل ألوان الأمل.
ويجدر الذكر هنا أن الفنان هو من مواليد 1966 أي أنه من جيل الحرب اللبنانية بامتياز التي تبدلت هي الأخرى في الشكل فقط عبر السنوات لتبقى في مضمونها شائكة ومقلقة وجلابة لحزن سقيم. وقد سبق أن ذكر الفنان موقفه من تجربة الحرب هذه قائلا “اندلعت الحرب في لبنان وكنت يافعاً لم أتأثر فيها كثيراً. يومها لم أطرح على نفسي الأسئلة الكابوسية: الخوف من فقدان عزيز بقذيفة أو رصاصة. بعد انتهاء الحرب استوعبت هذا العنف الرهيب، واستهولت كم كان الإنسان رقماً رخيصاً بلا معنى، وفهمت كم أن الحرب فعل تدميري خطير على الصّعد كلها”.
وبناء على ما ذكرنا آنفا تحضر أسئلة إضافية منبثقة من تجربة الحرب القديمة/الحاضرة دوما في كيان كل من عاشها، شعوريا أو لا شعوريا: هل كائناته اليوم هي في حالة نكران أو دفاع عن ذاتها وسط الجحيم اليومي؟ أم هي تبنت برودة تجاه الآخر، نتجت عن الأزمات اليومية المتكررة في وطن لم يكفّ عن تلقي الضربات من الداخل والخارج على السواء؟ أم هي في حال استكشاف مبدئي للعالم المعاصر والمدينيّ الذي قذفت إليه؟ وعليه، هل ما زال الموغل في القدم وفي الشاعرية على حد سواء، موجودا، ولكن محتميا بقيلولة في مكان ما بين الخطوط المُشكلة لها، أي للكائنات؟ ولمن ستكون الغلبة لتبني العالم المعاصر بأشكاله المسننة أو استيعابها إلى حين يتحول الضوء من جديد إلى نور؟