اللبناني زايد توبة في رحلة دائمة للكشف عن عالمه المشحون

غادر زايد توبة لبنان، لكن لبنان لم يغادره بل لا يزال مؤثرا في عالمه الذاتي المشحون والذي يحاول التعبير عنه بخلق شخوص من خشب تسرد حكايات شعب وقصصا وحكايات من الواقع بنظرة خيالية حالمة تضفي على الواقع بعدا جماليّا فنيّا.
يمعن الفنان اللبناني متعدد الوسائط زياد توبة أكثر فأكثر في عالمه الداخلي المشحون بقراءات كثيرة وبرؤى فنية واهتمام متصاعد بالعمل اليدوي بعيدا عما يدور في العالم المحيط، لاسيما في وطنه لبنان بعد أن غادره إلى تركيا ليبدأ صفحة جديدة وحياة مختلفة أقلهما من الناحية المعيشية.
لم يقدم الفنان أعماله الجديدة أو تلك التي سبقتها في أي معرض فني، بل اكتفى مبدئيا في تشكيلها في محترفه الذي لابد من أن يكون عابقا بعطر الخشب المشغول بشغف فنان واسع الثقافة يجمع الحساسية والحس الجمالي وحب العمل اليدوي. أعمال بدأت وفي سرعة كبيرة تخطي عتبة محترفه إلى الآخرين المعجبين الذين اقتنوا أعماله بكل تقدير وحب. ولابد أن مكوثه في تركيا أمن له جوا مناسبا لينمو بموهبته بين الأشياء التي طالما أحبها.
يحلو لنا أن نشبه الفنان زياد توبة بوالد بينوكيو من ناحية اعتزاله محترفه والعالم يموج بالتكنولوجيا المتقدمة وصولا إلى تلك المهددة بمعنى الإنسانية، ومن ناحية ثانية لانغماسه الشديد في صناعة حياة وقصص رديفة للحياة التي نعرفها غير أنها أقل قسوة، ووحدة، وأكثر حميمية، وبراءة.
ما من أحد سينظر إلى صورته الذاتية التي وضعها على صفحة الفيسبوك الخاصة به حيث يبدو في محترفه منمنما كأعماله وهو يرتدي مريول المحترف المخطط بالأسود ولون البيج والبني، ومحاطا بشخوصه الخشبية الملونة، إلا وسيبتسم بفضول ليتعرف أكثر على هذا الفنان وعلى كائناته الخشبية اللطيفة.
ليست الأعمال الخشبية التي يقدمها اليوم خارجة من العدم وهي تأتي في سياق فني تبلور في السنوات القليلة الأخيرة. ونذكر في هذا السياق الرسومات على الأوراق الكرتونية المهملة التي أعادها إلى الحياة ليس بمنطق الريسايكل آرت. كما حضر في أقسام من رسومات الكرتون الرقيق والمتدرج الذي يشبه المراوح الورقية وجعلها خلفيات احتفظت بألوانها البنية الأصلية، لغرف حميمية يغلبها السكون والراحة والوحدة البعيدة عن الحزن، بل الملازمة لكل من تذوق الزمن على النحو الذي كان يذوقه أهلنا في فترة الستينات وربما قبل ذلك من القرن الماضي.
وكان اللافت في رسومات زايد توبة ميله إلى الحرفية والتعامل مع الورق الكرتوني الغليظ والرقيق وفق أصول تتطلب إدراك مكامن قوة وضعف تلك المادة. فهو في أعماله كان يشق ويلوي ويحفّ ويطوي ويصقل ويلوّن ويقصّ ويلصق فيظهر على السواء فنانا ومصمما وحرفيّا وظّف قدرته ومعرفته لأجل استقامة معالم وأجواء منحوتاته ورسوماته.
وقد ذكر في هذه المرحلة الفنية من حياته في إحدى مقابلاته الصحفية “أتمنى أن أصل إلى تصميم عمل مبتكر يومًا ما، ومن دون أي أيقنة فنية، بل أيقنة وظيفية وجمالية، مثل تصميم كرسي ويندسور”.
وصل الفنان زايد توبة إلى عمل مبتكر ينتمي إلى حساسيته ونظرته إلى الوجود. وهو رغم معرفته بتلوث العالم واختباره للعديد من وجوهه استطاع أن ينشئ عالما ينتمي إلى القصص الخرافية بعيدا عن السذاجة وقريبا من الذاكرة الجماعية المشحونة بالقصص الخرافية وأبطال أفلام الفانتازيا والخيال العلمي.
حول أعماله الحالية أشار لنا الفنان إلى أن فكرة صناعته للدمى الخشبية “كانت حاضرة كل الوقت معي، بسبب اهتمامي بهذا النوع من الحرف عبر اقتنائها من كل بلد زرته. منذ فترة اشتريت دمية خشبية من حرفي سريلانكي وكنت كلما أنظر إليها أتشوق لصناعة ما يشبها. فن صناعة الـ”بيغ دول” فن قديم مارسه اليابانيون وامتد لينتشر في الكثير من البلدان وتجدد وتنوع”.
ويضيف الفنان قائلا “عندما فتحت مشغلي في تركيا أول ما قمت به هو محاولة صناعة ألعاب ودمى خشب واكتشفت متعة في هذه الصناعة.. الأمر يشبه اللعب والعمل في نفس الوقت”.
ويعبر الفنان عن الدهشة حين تحين مرحلة تلوين الشخوص التي تعطيها شخصيتها وخلفيتها التاريخية أيضا. فهي دمى ليست مُحببة بحد ذاتها فقط، بل بما يأتي معها من شخوص هم جزء من “حياتها”، إذا صحّ التعبير وجزء متمم للقصة الخاصة بها. فبياض الثلج تجيء مع الأقزام والساحرة الشريرة وبطل من أبطال “حرب النجوم” يواكبه أبطال آخرون من ذات السلسلة. ولا يأتي الأمير الصغير إلا واقفا على كوكبه الصغير مصحوبا بالثعلب والوردة الحمراء.
لا يتوقف عمل الفنان على صناعة الشخوص فقط، بل يقوم بتصويرها وخلفها وتحتها ديكور خاص يضاعف من واقعيتها وأثرها في نفس المشاهد. وليس من الغريب أبدا أن يبدأ مقتني مجموعة من أعمال الفنان أن يقوم بتوزيعها وتغيير أماكن وقوفها لتناسب عودة إلى نتف من أحلام غابرة وصفحات من قصص قرأها وهو صغير. لا يصنع الفنان دمى خشبية جميلة، بل يخلق عالما سحريا ومتحركا هو في متناول اليد والقلب.
إضافة إلى هذه المجموعة يذكر الفنان زايد توبة أنه اشتغل على شخصيات عادية “من يومياتي وحولتها إلى تماثيل خشبية.. شخصيات تشبه ناسا نصادفهم كل يوم. أما لاحقا فاشتغلت على دمى خشبية متحركة مثل الطائرة والمركب البحري. لم يعد ما أقوم به فقط فنا لأجل الفن، بل أصبح مهنة أو حرفة من الممكن أن أعتاش منها. صنعت حتى الآن أكثر من 500 قطعة مختلفة بين شخصيات معروفة ودمية ولعبة وكرافت متنوع ممكن أن يكون له استخدام يومي”.
ويقول “بالإضافة إلى هذه المجموعة، مجموعة الكوكشي الياباني المتميز بزخرفة خاصة وزيّ الكيمونو التقليدي. بلغ عدد هذه المجموعة 50 قطعة بمقاس 10 سنتيمترات وقطر 3 سنتيمترات. وهي مجموعة تتطلب الصبر والتركيز لإنجازها”.
لا نعرف كيف سيتطور عمل الفنان، ولكنه بالتأكيد سيواصل في التطور، وهو قبل أي أمر آخر: مثال عظيم على اجتماع الحرفة بالفن، والحب بالعمل.
يُذكر أن الفنان زايد توبة حاصل على شهادة دكتوراة في علم الاجتماع. أقام ثلاثة معارض فردية قبل أن يشق طريقه في الفن. طريق مسكون بأعماله الفنية الخشبية التي تكتسب أبعادا جديدة يوما بعد يوم.