اللبناني جان مارك نحاس يطلق العنان لذئبه الوردي

تحول فني ملتبس في "بيروت، حب حتى الجنون".
الجمعة 2022/10/28
ذئب وردي متمرد

يأتي المعرض الجديد للفنان اللبناني جان مارك نحاس ليحدث هزة نوعية في تجربته الفنية، تثبت فيها الألوان وخاصة الوردي منها حضورها في نصه البصري بعد أن سجن لسنوات في سواد قاتم، وتكشف علاقة الفنان ببيروت.

دون توقف عن العمل الفني وبعد غياب عن الساحة الفنية اللبنانية يعود الفنان متعدد الوسائط جان مارك نحاس للعرض في صالة “إل.تي” بالتعاون مع “وايل وي أر يانغ” بمجموعة كبيرة من اللوحات تحت عنوان “بيروت، حُب حتى الجنون”.

لمجرد ذكر اسم الفنان، تخطر على البال ظاهرتان استقرتا طويلا في مسيرته الفنية الحافلة بأجواء الحرب اللبنانية وتأثيراتها على المستوى الشخصي والعام من ناحية، وعلى مستوى المضمون والأسلوب النزق والمتوتر من ناحية أخرى.

جان مارك نحاس خط أعماله لأنها ظهرت بمعظمها كسرد بصري مؤلف من «نصوص» متقشفة
جان مارك نحاس خط أعماله لأنها ظهرت بمعظمها كسرد بصري مؤلف من "نصوص" متقشفة

 المسألة الأولى هي أن جان مارك خطّ أعماله تلك، ولا نقول فقط رسمها، لأنها ظهرت بمعظمها كسرد بصري مؤلف من “نصوص” متقشفة ذات نبرة تشي بسرعة التنفيذ التي اشتهر بها الفنان وتحيلنا إلى كونه أولا رسام غرافيك بامتياز. أعمال قائمة بحدّ ذاتها، ولكن مُتتابعة كلقطات من فيلم تعبيريّ طغت عليه نبرة حادة خطّ معظم تفاصيلها بقلم الحبر الأسود إلى جانب حضور اللون الأحمر.

أما المسألة الثانية فهي سيطرة سخرية سوداء على نصه الفني تغذّت طويلا على المآسي التي عاشها كفنان من جيل الحرب اللبنانية بامتياز وهو المولود سنة 1963.

ومن اللافت أن نحاس ذكر في إحدى المرات أنه لا يهمه طرح أسئلة ولا محاولة إيجاد حلول شافية للخراب الذي شاهده واختبره في أعماله وأن كل ما يهمه هو إخراج مخزونه الذي لا ينضب في نص يسرد الواقع الفج بأسلوبه الخاص.

أما هذا الأسلوب الخاص فهو من أخرجه كفنان إلى العلن المحلي والعالمي على السواء. ففي لوحاته تلك تحول الحب إلى مجون واللعب إلى القتل، والحزن الى ضحك والعلاقات الإنسانية بالتجاور مع الحيوانات والأشجار ذات الأغصان الغرافيكية المبتورة والحادة إلى هتك متواصل لا قرار له.

اليوم، نحن على موعد مع تحول مُلتبس في ما قدم تحت عنوان “بيروت، حُب حتى الجنون”. هذا التحول يعيد طرح مسألة مهمة جدا، طبعا من دون قصد الفنان، تتعلق بصدق مُمارسته لفنه ووحدة الأسلوب الذي اتبعه وكيفية تبدله في سياق وحدة الأسلوب الفني والمنطق النفسي “المعقول”، إذا صحّ التعبير.

نحاس اليوم يفاجئنا لأول وهلة بحضور الألوان ولاسيما اللون الوردي. كما يذهلنا، ولكن أيضا للوهلة الأولى فقط، بشخوصه التي لم تعد عبارة عن هيئات خطها قلم كسكين سريع يعاني من تقطعات في انسياب حدته. أما مواضيعه “فحاولت” قدر الإمكان بأن تكون بعيدة عن أجواء الكوابيس التي عهدناها في أعماله السابقة.

الوردي يأخذ مكان الأسود في أعمال نحاس الجديدة
الوردي يأخذ مكان الأسود في أعمال نحاس الجديدة

وللوهلة الأولى أيضا سنتساءل “ماذا يحصل هنا؟ لماذا تخلى الفنان، المعروف بصراحته حتى حدّ الفجاجة، بهذه الفداحة عن كل ما جعله نحاس؟”. غير أن هذه الأسئلة لا تلبث أن تتلاشى الواحدة تلوى الأخرى.

الحقيقة أن الفنان ربما لم يكن صادقا يوما أكثر مما هو اليوم. وهذا التحول المُلتبس الذي ذكرناه آنفا لم يكن إلا إفصاحا عن بعد جديد كان دوما موجودا عنده، ولكنه كان ثائرا عليه، ومحاولا دوما أن يسخر منه.

ومن يعرف نحاس على المستوى الشخصي، يعرف أنه كان ولا يزال حتما لاذعا وجريئا حدّ الوقاحة أحيانا ومرتجفا أيضا كطائر داهمه المطر.

 ربما أن ما نشاهده اليوم هو أولا شوق إلى بيروت التي تملك هذه القدرة في أن تبقى جميلة ومُشرقة حتى وهي في عز كآبتها وأيضا “الرغبة في الفرح” كما ذكر الفنان.

أما ثانيا، وربما الأهم، فهو أن ما نشاهده اليوم هو تصالح الفنان مع أفكار ومشاعر كان يعتبرها مُهددة لتماسكه كالحب وإمكانية الوثوق بالآخرين ورؤية الخير يومض وبقوة في قبضة الشرّ.

مواضيع الفنان التشكيلي اللبناني حاولت قدر الإمكان أن تكون بعيدة عن أجواء الكوابيس التي عهدناها في أعماله السابقة

وقد تجلى ذلك في تبيان وجود اللون الوردي في هذا الكمّ الهائل والواقعي جدا من الأسود الذي طالما رافقه في معارضه السابقة.

 وفي لوحاته الجديدة مساحات مفتوحة، وطيور لم تعد متكسرة. التوت البري نمى، وشخوصه رجالا ونساء تأخذ هدنة من الضغط لتستمتع بالشاطئ والرمل البحري والرفقة.

وفي هذا السياق يجدر التساؤل: هل خرج نحاس من كوابيسه؟ أغلب الظن أنها مازالت حاضرة، ولكن هي على الأقل، أصبحت تحت السيطرة. فالوجوه مازالت قلقة. وبضعة مشاهد من العنف حضرت أيضا كما في لوحة “ساحة الجريمة” وللمُفارقة إنها ليست اللوحة الأكثر إشارة إلى حضور العنف أو القلق في لوحاته.

غير أن التوازن ما بين القلق والطمأنينة وما بين الفرح والحزن له عراب كوميدي/مأساوي في معظم لوحاته الجديدة. إنه الذئب الوردي اللون، الطفولي، الماكر، الساخر، القلق، الشرس، المُسالم، والظريف في جميع أحواله. حضر في العديد من لوحاته ليغيب في لوحات أخرى شكليا فقط ويستقر فيها روحيا. إنه نحاس الذئب اللطيف العابر في لوحاته. اليوم، ترك عادة منع ذاته التواقة من إطفاء عطشها في عذوبة نهر وردي تليق به وتريد أن تدفئ روحه، ولكن دون أن تشذب أنيابه وتخلع عنه صفة السخرية اللاذعة التي حلت طويلا به كما حل به اليوم: اللون الوردي.

ويُذكر أن الفنان جان مارك نحاس مُتعدد الوسائط وله أعمال استخدم فيها قلم الرصاص، والحبر، والأكريليك والخشب. تلقى تعليمه الفني في باريس. له مشاركات كثيرة في معارض جماعية وفردية داخل لبنان وسوريا والأردن وفرنسا وبلجيكا وألمانيا ودبي وكندا. كما له أعمال عديدة من ضمن مقتنيات المتحف البريطاني.

14