اللبنانية كيلي حداد تحاول "العثور على السكينة في قلب الفوضى"

سردية نفسية وبصرية لأفكار وهواجس ذاتية وجماعية.
الأربعاء 2023/08/02
زوبعة في فنجان

كؤوس وشموس وألوان ترابية دافئة تجتمع مع الأزرق المائي في لوحات اللبنانية كيلي حداد لتعبر عن الأزمات المتراكمة في بيروت، من خلالها تحاول الرسامة الإفلات من الأفكار السوداء والتشبث بالأمل والحياة.

تقدم صالة "ماهر عطار" الكائنة في منطقة الجميزة في بيروت معرضا للفنانة اللبنانية - الأميركية كيلي حداد تحت عنوان "العثور على السكينة في قلب الفوضى". يضم المعرض 15 عملا مشغولا بالأكريليك يتنفس فيها اللون الأبيض، فيما يموج الأزرق صعودا وهبوطا ليترقرق متعريا من الحصار الصاخب الذي تقيمه الخطوط السوداء المتراقصة تارة والمتراصة تارة أخرى. وافتتح المعرض في أواخر شهر يوليو الفائت ويستمر حتى الحادي عشر من شهر أغسطس الحالي.

الزوابع المائية والبحرية تحديدا التي تضرب في الكؤوس والفناجين الشفافة التي ترسمها الفنانة اللبنانية كيلي حداد فيها الكثير من الطرافة وتبعث في نفس الناظر إليها انشراحا ملحوظا وبرودة تنعش أجواء صيف بيروت الحار جدا هذه السنة. ولا تعود الطرافة في أعمالها إلى الموضوع الذي تتناوله الفنانة وهو أهمية معنى التغلب على القلق في عز الأزمات المتراكمة فحسب، بل لأن الفنانة تترجم بصريا هذا التوق إلى الإفلات من الأفكار السوداء والضغوط دون نكران وجودها في أسلوب يذكر بالمياه الغازية حين تضحك في كأس شفاف تحت ضوء شمس حارقة.

والجميل في أعمالها أنها بالرغم من استخدامها لمروحة قليلة من الألوان: الأبيض والأسود والأزرق باستثناء لوحة أو لوحتين يحضر فيها بشكل بسيط اللون الأصفر الليموني، وأيضا بالرغم من كون العنصر الأساسي المتكرر في كل لوحاتها هو كوب أو كأس تجري فيه معالم أحاسيس متدافعة، لا يحلّ الملل في نفوس الناظرين إلى الأعمال. واستطاعت الفنانة بعفوية الخطوط والتموجات التي ترسمها أن تكون خارج إطار الرتابة.

15 عملا مشغولا بالأكريليك يتنفس فيها اللون الأبيض، فيما يموج الأزرق صعودا وهبوطا ليترقرق متعريا من الحصار
◙ 15 عملا مشغولا بالأكريليك يتنفس فيها اللون الأبيض، فيما يموج الأزرق صعودا وهبوطا ليترقرق متعريا من الحصار

يصبح كأس الماء الرقراق الصالح للشرب رغم إحالته إلى أمواج البحر المالحة موجودا ليس بهدف إثارة الرغبة في الشرب وقهر العطش الدائم أثناء شهور الصيف الحارقة، بل يصبح رمزا للعيش، وقالبا يحتضن بلبلة ظروف حياتنا اليومية وتخطيها على السواء بقفزة وقفزات خارج الكأس، ولكن دون أي إهراق لنقطة ماء واحدة خارج حدوده.

من المعروف بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه أن عنصر الماء هو العنصر الأكثر إخافة. وقد ذُكر في دراسات عديدة أنه ربما مردّ ذلك لأنه مرتبط بالأنوثة. أنوثة تظهر وبقوة في إحدى لوحات الفنانة حين تظهر امرأة تقفز في الماء بكل حرية حد أنها تحيلنا إلى عصفور الحسون الذي يغتسل بفرح في صحن ماء طفيف عند يقظته من النوم فيزيل العمش عن عيونه ليتقبل يوما جديدا. كما نعثر على لوحة تظهر فيها امرأة تجلس في قاع الفنجان مستريحة غير متأثرة بأمواج المياه المتدفقة فوقها. تجلس وهي ترضع صغيرها من حليبها الذي استحال إلى ماء أزرق يعطي الحياة والأمل.

ونذكر أيضا لوحة أخرى تبدو فيها امرأة تغوص في الماء ثم تصعد إلى سطحه وتتنفس. تكتب كيلي حداد في وسط اللوحة باللغة الإنجليزية “غص في الماء لتخرج منه”. الجميل في هذه اللوحة أن الفنانة استطاعت أن تُشعر الناظر إليها بحركة الدخول والغوص في الماء والخروج منه في آن واحد وذلك ببراعة الخطوط العفوية وبرقة الماء في موضع وكثافته في موضع آخر.

زوابع فنجان كيلي حداد ليست مرعبة لأن من الممكن السيطرة عليها ولا ننسى أنها بالرغم من اشتداد فورانها في لوحات دون غيرها تبقى من ضمن إطار الكأس أو الفنجان ومحاطة ببياض القماش النقي الذي ارتأت الفنانة أن تبقيه ناصعا كما الذهن من دون أفكار تشغله.

ونذكر في هذا السياق أن تعبير “زوبعة في فنجان” رائج جدا في البلاد العربية ويعني تقلص الحجم الفعلي لأي ظاهرة مُتعبة قد يختبرها الإنسان. والفنانة تدعو جمهورها إلى أن يخفف من قلقه حتى يستطيع العيش على الرغم من الفوضى الخانقة. لا تجاهلا للواقع/الأزمة، بل دعوة إلى الانتصار عليه بسلاح الرقة والتبسطّ في النظرة إلى أمور الحياة المعقدة. والحقيقة هي أننا اعتدنا على رؤية كأس الماء حتى بتنا لا نقدرّ جماله وأهميته ورمزيته. أما الفنانة فتذكرنا به في أعمالها.

◙ الزوابع المائية والبحرية التي تضرب في الكؤوس والفناجين الشفافة التي ترسمها كيلي حداد فيها الكثير من الطرافة

مجرد كأس بسيط من الماء كالذي ترسمه الفنانة كيلي حداد خاليا من الزخارف والألوان قادر بأن يحيلنا إلى أفكار إيجابية كثيرة انتشرت في حضارتنا الإنسانية. فالماء هو التطهر من الذنوب والأوجاع وهو مصدر وعنوان للحياة بخصائصها المُبلسمة. الدعوة إليه هي دعوة إلى الحياة وإلى الالتفاف حول غذائها عضويا وروحيا حتى الوصول إلى ما عنونت به الفنانة معرضها: الهدوء في خضم الفوضى.

في لوحات الفنانة مشاعر مختلفة تتطرق إليها من خلال حالات الماء المختلفة: الماء الصافي والهادئ الذي يشير إلى هدوء النفس وتصالحها مع محيطها. والماء المتعكر والمتموج الذي يرمز إلى النفس المضطربة التي تحاول الخروج من اضطرابها. والماء العميق الذي يأخذنا إلى غموض هذا العنصر الحيوي بالرغم من خاصية الشفافية. وهكذا تخرج أعمال الفنانة كيلي حداد من الرتابة وتدخل في سردية نفسية وبصرية تحلو للمُشاهد “السباحة”، إذا صحّ التعبير، في فصولها.

يُذكر أن الفنانة كيلي حداد أرادت أن يكون معرضها الأول في وطنها لبنان وفي بيروت بشكل خاص رغبة منها في الاتصال بتاريخها الشخصي ومن ضمنه المنزل الجبلي الخاص بجدّيها حيث كانت تعبق رائحة الياسمين. في بيروت رأت الفوران والقلق والتناقض والضغوطات المادية والنفسية المختلفة. وربما من دار جدّيها وياسمينها النديّ استشعرت الفنانة الخلاص من الفوضى بالبساطة بالغة الجمال التي تتمتع بها أزهار الياسمين. أزهار لا تخلو من السحرية إذ أن كيلي حداد ذكرت بأنها كانت أزهارا تذبل كلما فرغ البيت من الحس البشري وتعود إليه الحياة كلما حضر إليه ناسه وأحبابه.

14