اللبنانية فاطمة الحاج ترسم نزهة في الحديقة المُتسعة

مشاهد طبيعية تسرد مشاعر متناقضة وتدعو إلى الانفصال عن الواقع.
الأربعاء 2023/03/01
حدائق تغلب عليها الحميمية

طوعت الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج اللون والضوء لترسم حدائق غناء تحررها من سطوة الواقع وتدعو المشاهد إلى التحرر معها، رغم أنها تصور مشاعر متناقضة قادرة على الإيحاء بأفكار الرسامة والمتلقي، لكنها تظل حدائق ساحرة تتنوع بتنوع الفصول الأربعة وتنوع المآسي اللبنانية.

افتتحت صالة مارك هاشم في بيروت معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية فاطمة الحاج تحت عنوان “نزهة في الطبيعة” وضم مجموعة أعمال يمكن وصفها بالاحتفالية الغنائية ومعظمها بالحجم الكبير، ويستمر المعرض حتى منتصف شهر مارس الجاري.

وذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن المجموعة المعروضة أنجزتها الفنانة فاطمة الحاج متأثرة بفترة الحجر الصحي الذي فرضه انتشار وباء كوفيد – 19 إضافة إلى الصراعات والمصاعب التي يعيشها لبنان منذ عدة سنوات.

وفي هذا السياق يشكل معرض الفنانة مثالا على أن كل فنان يتلقى الأزمات ويشعر بها بطريقة مختلفة ليعبر عنها بطرق تختلف إلى حدّ التناقض. وهكذا تأتي لوحات الفنانة فاطمة الحاج المُزهرة (والتي لا تخلو من كآبة مبطنة) من قلب المآسي التي عاشها لبنان ولا يزال يعيشها.

وذكرت الفنانة ضمن البيان الصحفي “في بداية فترة الحجر الصحي كنت في باريس ثم سمعت بخبر انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020، مما حرك في نفسي إحساسا عميقا بالاغتراب القصري فبدأت بتأليف كتاب من 30 قطعة فنية ترافقت مع أبيات كتبها شعراء حول لبنان”.

وأضافت الفنانة أن إيغالها في البحث والشعر أوصلها تاليا إلى عالم الشاعر الفارسي نظامي الكنجوي الذي جال في العالم ومكنها من تخيّل وتنفيذ مروحة واسعة من الألوان مستوحاة من بلدان عديدة.

وأشارت الفنانة بشكل خاص إلى القصيدة الرابعة للشاعر والتي حملت عنوان “الحسناوات السبع”.

تت

أطلقت الفنانة التشكيلية اللبنانية فاطمة الحاج المعروفة بنصها التعبيري الميال بشدة إلى الانطباعية عنوان “نزهة في الطبيعة” وربما كان من الأصوب لو أعطت معرضها هذا العنوان “نزهة في الحديقة”؛ وذلك لأن الفنانة لم ترسم يوما حتى وهي في عز تجسيدها لأجواء الغابات اللبنانية الزاهية بأشجار الصنوبر والسرو والشربين وغيرها من الأشجار التي احتضنتها طبيعة لبنان، لم ترسم إلا حديقة متوسعة غلبت عليها الحميمية.

لا يهم إن كبرت المساحات وتنوعت مشاهدها وتميزت في الكثير منها بخلوّها من البشر وآثارهم، فهي في لوحات الفنانة حدائق، لا بل حديقة؛ حديقة تخص الفنانة وحدها وتعبّر عن انشراح صدرها تارة وعن تعكر مزاجها تارة أخرى. وهي في عزّ خصوصيتها، أي الحديقة، قادرة على أن تعكس مشاعر وأفكار كل من خرج من عتبة بيته نحوها ونحو ما تقدمه من مشاعر تفسح المجال للتأمل والتفكّر في حال الحياة.

وفي حدائق أو حديقة الفنانة فاطمة الحاج يعثر المُشاهد على منعطفات شائكة لم تخلع عنها ألوانها المتوهجة ويعثر أيضا على رطوبة بحيرات ضحلة نمت فيها الأزهار وليس بالضرورة أزهار اللوتس أو تلك التي “ينبغي” لها أن تنبت في الماء.

ما تقدمه الفنانة هو تكريس لخطها الفني الذي يشبهها ويعكس ميلها إلى استنطاق قدرة الألوان على الإيحاء

وقد يخال البعض من المشاهدين أن ورودا صعدت من قعر البحيرات أو امتدت لتعانق أغصان أشجار غير مزهرة.

الفصول الأربعة حاضرة في لوحات الفنانة وليس بالضرورة في معرضها الفردي هذا. غير أن حضورها في أغلب الأحيان ليس عاديا. ففصول الطبيعة قادرة على أن تحضر جميعها في لوحة واحدة بانسجام تام لا تثير غرابته “الغرابة”. لأجل هذه الصفات تميّزت حديقة الفنانة فاطمة الحاج بأنها ساحرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهي أيضا غنّاء مكتفية بذاتها.

سيرة فنية طويلة عبرت فيها الفنانة عن عشقها للطبيعة وانفعالاتها وهي في كل معرض تقدمه تسرد مجموعة من القصص البصرية في لوحة واحدة. وحين نقول مجموعة من القصص البصرية نقصد أن عين المُشاهد تتجول وتتنزه في حديقة فاطمة الحاج من منطقة إلى أخرى وكل “منطقة” في لوحة الفنانة هي مشهد آخر أفضى إليه المشهد الذي سبقه.

وليست هذه النزهة على مستوى واحد من النظر، فكما أن الفنانة تدعو المُشاهد إلى أن يسير بمحاذاة مشاهد لوحاتها هي أيضا تفتح أمامه حقل البصر إلى داخل اللوحة، إلى أعماقها حيث مشاهد أخرى تنفتح على مشاهد غيرها من خلفها.

ويشكل معرض الفنانة فاطمة الحاج تتويجا لمسار فني طويل أوصلها إلى هذه القدرة في جعل المشاهد الطبيعية تخاطب الناظر إليها على أنها مفردات تسرد مشاعر تتناقض فيما بينها دون أن يلغي بعضها البعض الآخر.

وليس على زائر معرض الفنانة أن يتوقع رؤية أعمال جديدة مغايرة لذلك التوجه الفني الذي حفر بعيدا في نفس فاطمة الحاج حتى صار جزءا منها. فهو سيعثر من جديد على هذا الولع المُتجدد دوما باللون، والانشغال بالضوء ليس كمادة تستخدم لتظهير الأشكال والشخوص الموجودة في لوحتها، بل كعنصر أوكلت إليه مهمة إقامة الحدود بين أجزاء اللوحة، شاحنا إياها بغنائية تعبيرية برعت الفنانة في جعلها نسيجا واحدا يستحيل تفكيكه دون أن يحدث خللا ما في تصميم بنيان اللوحة.

عع

وتبرز الفنانة اللبنانية في لوحاتها الجديدة عناصر، على الرغم من أنها طبيعية، كأنها قصور أسطورية تتخفى خلف النباتات والورود، مسكونة بالسحر وبالكائنات التي لا تنام حتى حين ترسم الفنانة مشاهد ليلية.

صحيح أن البيان الصحفي يذكر أن فاطمة الحاج لطالما كانت متأثرة بأعمال الانطباعيين الفرنسيين، لاسيما هنري ماتيس وإدوارد فويارد وكلود مونيه، إلا أن ما تقدمه الفنانة معرضا تلو الآخر هو تكريس لخطها الفني الذي يشبهها ويعكس مزاجها وميلها المتجدد إلى استنطاق قدرة الألوان على الإيحاء لاسيما في مجاورتها تارة وانصهارها تارة أخرى مع بعضها البعض.

“نزهة في الطبيعة” هي دعوة صريحة للانفصال عن حاضر سقيم حتى يتم شفاء النفس ولو كان ذلك للحظات.

يُذكر أن الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج هي من مواليد عام 1953. حاصلة على شهادة في الفنون من الجامعة اللبنانية. وحصلت بعد ذلك على شهادة من “كلية لينينغراد للفن” ثم على

شهادة أخرى في الفن التزييني من باريس. وحصلت أيضا على جائزة “بيكاسو” من مدريد. ولديها مشاركات عديدة في معارض جماعية داخل وخارج لبنان، كما قدمت معارض فردية في لبنان وإسبانيا وفرنسا وقطر والبحرين وسوريا والكويت والإمارات والمغرب وقطر.

 

14