اللبنانية زينة قمرالدين تجعل الغياب ظاهرا في معرضها الجديد

الغياب أمر شديد الوقع على اللبنانيين ومنهم الفنانة التشكيلية زينة قمرالدين بدران، لكنه من شدة حضوره صار أيضا عنصرا قارا في أعمال الفنانة، حيث تصور لوحات لقصص وشخوص وأشكال تحاول إعادة فهم الغياب وحضوره في الحياة اليومية.
قدمت صالة عايدة شرفان في وسط بيروت بالتعاون مع المستشارة الفنية كريستيان الأشقر معرضا جماعيا وذلك من ضمن نشاطها في هذه الصالة الجديدة نسبيا في منطقة السوديكو وذلك إلى جانب الصالة الأساسية الموجودة في منطقة أنطلياس.
تضمن هذا المعرض الجماعي معرضا فرديا في الصالة الزجاجية للفنانة التشكيلية اللبنانية زينة قمرالدين بدران المُقلّة في عروضها الفنية رغم نشاطها المستمر في مُحترفها منذ مطلع الألفية. حمل المعرض عنوان “غياب” وكان زمنيا بمثابة جسر امتدت أواصره من أواخر السنة الفائتة ليستمر حتى مطلع هذه السنة الجديدة.
ذكرت لنا الفنانة أن المعرض “يضم أعمالا نفذتها خلال فترات متباعدة، ولكنها تحمل عنوانا واحدا وهو الغياب الذي يمكن أن تكون أسبابه غائمة وغير مباشرة. نحن كلبنانيين نعيش منذ زمن بعيد التشتت والبعد عن الأحبة لأسباب يصعب حصرها”.
أما مجمل الأعمال التي قدمتها والتي نفذتها إلى اليوم فقد سبق أن ألقت الفنانة الضوء عليها بهذه الكلمات “نتاجي الفني يتمركز بشكل خاص على التجارب واختبار استخدام كافة أنواع المواد. غير أنني أستطيع أن أقول إن أعمالي تأثرت بالفن التجريدي التعبيري الأميركي. ويأخذ فن الطباعة حيّزا مهما في عملي وقد دخلت إلى عالمه الشاسع سنة 2007”.
استخدمت الفنانة زينة بدران سابقا في أعمالها مواد شديدة الاختلاف معتبرة أنها تباعا نتف أو شظايا أو نفحات من الماضي، ماضيها الخاص لاسيما طفولتها.
من تلك المواد نذكر الشاش وشبك الصيد الخيطان. ويبقى ما يسمى بـ”المونوتايب” أي “الطباعة الأحادية” هو الأهم في عملها ويطلق على هذه التقنية “الأحادية” لأنها لا تسمح بإنتاج إلا طبعة فريدة ويتم إجراؤها من خلال وضع الطلاء أو حبر الطباعة على لوح مستوٍ من المعدن أو الزجاج أو البلاستيك دون استخدام مباشر لأدوات الحفر التقليدية حيث يتم نقل الصورة المرسومة إلى الورق إما عن طريق فركها يدويًا أو من خلال استخدام مكبس خاص.
الناظر إلى أعمال الفنانة السابقة والحالية سيدرك أن هذه التقنية تسمح للفنانة بتطويع “الحوادث” التي تحدث خلال العمل بحسب رغبة الفنانة وخبرتها كما تسمح بإحداث التغيرات ومن ضمنها التدخل بالرسم والإضافات اليدوية.
قد تكون الفنانة أطلقت على معرضها الجديد عنوان “الغياب” غير أن المُطلع على إنتاجها الفني السابق يعرف تماما أنه لطالما كان تحت عنوان “الغياب” بطريقة أو بأخرى. خفّت وتيرة هذا الغياب واشتدت من معرض إلى آخر ليظل الغياب حاضرا في ألوانها الأكثر تفجرا وبرودة وفي أعمالها الأكثر وأقلها تجريديا.
ومع مرور السنوات اشتد حضور هذا الغياب في حياتنا جميعا بشكل عام ليبقى الفن الأكثر تعبيرا عنه واستشرافا لما سيحضره من تغيرات أساسية في نمط حياتنا وفي طريقة نظرتنا إلى الأمور والأشد إيغالا في عوالمه الموحشة تطهيرا للنفس من أوجاعها من ناحية، وإظهارا لحقيقته الأصيلة منذ أن كان الإنسان حقيقة ووجود حاول العالم الحديث بضجيجه المقصود وغير المقصود إخفاءه بالتسالي وباللهاث وراء العمل لأنه مقرون بالصمت والوحدة. وما من أحد لا يعلم أن نظرة العالم الحديث إلى كلتا الحالتين موصوف بالوضع الشاذ ومقرون بالمرض.
بالنسبة إلى الفنانة زينة قمر الدين بدران فإن التصالح مع هذا الغياب ضرورة والنظر في وجهه صفاء يؤدي إلى السكينة، سكينة غالبا ما عبرت عنها من خلال تكرار العناصر في أعمالها. ونذكر هنا بشكل خاص العناصر التي برعمت في لوحاتها السابقة والحاضرة في شكل ورود متشابهة غير متطابقة حضرت إلى لوحاتها بالتقنية التي كما ذكرنا آنفا: تسمح بإحداث التغيرات ومن ضمنها التدخل بالرسم والإضافات اليدوية.
هكذا تعبر الفنانة اللبنانية عن مرور الزمن أيضا وليس فقط بشكل أفقي فقط، بل أيضا بالعمق عبر تراكم الطبقات التي تشف أحيانا كثيرة على بعضها البعض.
في معرض “الغياب” عدد من اللوحات المميزة لقمصان شفافة أنتجتها الفنانة بتقنية “الطباعة الأحادية” والحبر على الورق. ويتجلى الغياب في هذه الأعمال ليس في غياب الأجساد التي ترتدي تلك القمصان، بل في تمكن الفنانة من تظهير العدم في هيئة مادية ضاربة بعرض الحائط بمفهوم تلازم فكرة الغياب مع اللامرئية.
◙ الفنانة تحاول في كل عمل إجراء اختبار "مخبري" لاحتمالات ظهور الغياب كعنصر مألوف ويومي يسهل التعامل معه
كما تذكرنا هذه الأعمال بالصور الفوتوغرافية السالبة التي تظهر فيها المناطق المضيئة في الأصل مظلمة في الصورة، والمناطق المظلمة في الأصل مضيئة في الصورة. صور شبحية إذا صحّ التعبير، حيث يظهر العدم وكأنه الجانب الممتلئ وليس العكس والذي هو بمثابة تجسيد لزمن عبر دون أن يغادر. عبر، ولكن لم يتحول إلى غياب كامل، بل في حال التجدد على عدد الأعمال التي نفذتها الفنانة.
ربما لأجل ذلك تبدو أعمال الفنانة اللبنانية خالية من الانفعال. ثمة هدوء يطغى ولا يترك المجال لأي شعور يمكن أن يصور ألما ما غير قابل للترويض. وكأن الفنانة تحاول في كل عمل من أعمالها إجراء اختبار “مخبري” لاحتمالات ظهور الغياب كعنصر مألوف ويومي يسهل التعامل معه لأنه أصبح عادة.
يُذكر أن الفنانة زينة قمرالدين بدران من مواليد طرابلس، عاصمة شمال لبنان. بدأت حياتها الفنية كفنانة عصامية ثم درست الفن في الجامعة اللبنانية الأميركية. وحصلت بعد ذلك على إجازة في فن الطباعة والحفر من الأكاديمية اللبنانية للفنون. أول معرض فردي للفنانة كان سنة 2010 ثم تتالت المعارض الفردية. كما شاركت الفنانة في معارض جماعية داخل وخارج لبنان.