الكرسي حالة تكشف التطور في عالم التصميم بلبنان منذ القرن الماضي

"حالة حصار".. تصميمات تتحدى الدمار في صالة تانيت اللبنانية.
الجمعة 2022/05/20
لكل منا كرسيه الخاص

يرتبط الكرسي في العقل العربي بالعديد من المعاني والمشاعر ولعلّ من أبرزها حالة الحصار التي يكون عليها الجالس. فالكرسي يسجن صاحبه بإرادته ومن دونها، وتختلف قيمة الكرسي باختلاف موضعه، فالكرسي محب للسياسيين ولأصحاب المناصب العليا ولا يشبه كرسي مريض أو كرسيا في صالون بيت عتيق أو في المدارس.

افتتحت صالة “تانيت” اللبنانية معرضا يزاوج ما بين عالم الفنون البحت وفن التصميم الداخلي وذلك خلال منتصف شهر أبريل الماضي. هو معرض جماعي ضمّ العيد من الابتكارات لمصممي فن الديكور ومعظمهم لبنانيون تمحورت كلها حول الكرسي في العديد من هيئاته الممكنة وغير الممكنة على السواء.

ويحمل المعرض الذي يعرض في الصالة اللبنانية الكائنة في مدينة بيروت عنوان “إتا دو سياج”. والترجمة الحرفية لهذا العنوان هو “حالة حصار”. غير أن الترجمة، أو التعريب المباشر لهذا العنوان ليس صائبا من ناحية ما يعنيه أو ما يتضمنه المعرض، ولكنه عنوان ذكي لأنه يلعب على الخلفية التاريخية لكلمة “كرسي” بالأجنبية، أي “تشيير” التي مصدرها كلمة “كاتيردا” والتي تعني “حصار”.  أوليس الكرسي، أو المقعد، أو الكنبة أو غيرها من الأشياء تشكل حصارا وسياجا متينا متعدد الهيئات يحيط بالجالس مهما كانت هويته؟  للحاكم كرسي، وللتلميذ كرسي، ولأبطال أفلام الرعب كراس أخرى لا تشبه الكراسي المُتبدلة أحجامها سحريا تصغيرا أو تكبيرا في رواية أليس في بلاد العجائب.

السيراميك حضر بقوة إلى جانب الخشب والإسمنت. كذلك حضرت الألوان التي تراوحت من الأكثر تفجرا إلى الأسود القاتم

المعرض، أقامته صالة “تانيت” من ضمن نشاطاتها الفنية التي جرت على هامش مرور 50 سنة على افتتاح الصالة في مدينة ميونخ الألمانية و15 سنة على افتتاحها في بيروت.

وقام الفنان والمهندس اللبناني ربيع كوسا بتصميم سينوغرافيا فنية لمكان احتضان عرض التصاميم المختلفة أشد اختلاف في كيفية إنجازها، ولكن أيضا في المنطق الذي وضع أصولها على الورق قبل أن يُحال إلى تنفيذها. تنفيذ جاء وحسب قول جوي مارديني، المُشجعة القوية لفن التصميم الداخلي اللبناني وعرابة هذا المعرض، إنه “جاء بفنية عالية استطاعت أن تعوض عن النقص في المواد الصناعية والطبيعية غير المتوفرة في لبنان وتحوله إلى قوة إبداعية واضحة”.

 قد لفت نظر المُشاهد المواد المستخدمة في التصاميم وكيفية تشكيلها لاسيما في ما قدمه كارلوس مسعود الذي عرض كنبة نفذتها مجموعة من الحرفيين المكفوفين البارعيون من الحبال قبل أن تصب على قاعدة معدنية دقيقة. كما حضر السيراميك وبقوة إلى جانب الخشب والإسمنت. كذلك حضرت الألوان التي تراوحت من الأكثر تفجرا إلى الأسود القاتم.

ولا شك أن لهذا المعرض أهمية إضافية لأنه يستحضر بيروت وبيوتها التقليدية وبعضا من أجواء أثاثها الذي صمم ونفذ منذ بداية القرن التاسع عشر وصولا إلى السبعينات من القرن العشرين والذي تعرض للتلف أو الدمار الكامل جراء انفجار الرابع من أغسطس المزدوج سنة 2020. يُذكر أن في الصالة تصميما للمهندس موريس بونفيس والد المصمم جان مارك بونفيس الذي لقي حتفه في الانفجار.

الكراسي عناوين أصحابها
الكراسي عناوين أصحابها 

كما يوضح البيان الصحافي المرافق للمعرض أنه يضم “عددا كبيرا من تصاميم الكراسي والمقاعد حققها 20 مصمما لبنانيا من وحي تطور عالم التصميم الذي شهده لبنان منذ سنة 1960 وصولا إلى يومنا هذا”.

ومن الفنانين والمصممين اللبنانيين نذكر جورج محاسب وسامي الخازن وطوماس طراد وآية صالح وجو نعمان، وسارة جرار ومارلين مسعود وكارلا باز وبرنارد خوري، ومارك بارود.

ويجدر ذكر أن الملصق المُعلن عن هذا الحدث هو في حد ذاته عمل فني لا يقل أهمية عما حضر في قلب الصالة. للوهلة الأولى سيرى الناظر إليه مجموعة “طيور” حمراء تعتلي مدرجات من إسمنت ذات لون فاتح جدا وتتجاور دون أن تتلاقى في حجرات مفتوحة على بعضها البعض. بعد نظرة متروية يكتشف الناظر إليه أن الطيور “الجالسة” التي رآها ليست إلا كراس وأن الحجرات الإسمنتية ليست إلا منصات تذكر بفن “الأوريغامي” المنفذ بالورق.

 ويطرح هذا الملصق ليس فقط التشويق في نفس الناظر إليه، ولكن أيضا يحضّر المُشاهد إلى أن بعضا ممّا سيراه داخل الصالة لا يصلح تماما للاستخدام، ببساطة، لأنه لا يحقق الحاجة الأهم من أي كرسي، وهي أن يكون مريحا بالحد الأدنى.

ويحيلنا ذلك إلى عالمين: الأول وهو عالم تصميم الأزياء والثاني هو عالم الفن التشكيلي.  فكما نعلم أن الكثير من دور الأزياء الأكثر شهرة تقيم حفلات موسمية تعرض فيها ملابس لا يمكن ارتداؤها، أو الأصح القول “غير صالحة” للارتداء بقدر ماهي فرصة لاستعراض قوة الإبداع الفني لدى الدار.

الكرسي ليس قطعة أثاث فقط
الكرسي ليس قطعة أثاث فقط

 أما العالم الآخر الذي يحيلنا إليه ملصق المعرض فيفتح على عالمين الأول هو عالم الفن المفهومي الذي تناول تاريخيا ولا يزال تيمة أو مفردة الكرسي بعيدا عن كونه قطعة أثاث ليطرح أفكارا محددة ونذكر هنا على سبيل المثال ما أبدعه الفنان المهندس ميشال بروان تحت عنوان “مجال الثقب الأسود” ويمثل هذا العمل 74 كرسيا تتحلق حول بعضها البعض لتكون كوكبا، أو فلكا واحدا يتجمع حول فراغ بدا أنه شديد الجاذبية بحيث أنه يمنع سقوط الكراسي وتباعدها عنه.

أما العالم الثاني، الفرعي، فهو عالم الفن التشكيلي الذي استطاع أن يختصر شخوصا من خلال رسم كراسيهم بهيئة محددة لأنها تليق بهم أو “تشبههم”. ونذكر هنا على سبيل المثال ما رسمه الفنان فينسنت فان غوغ: كرسي للفنان بول غوغان الفخم نسبياً مقارنة بكرسي القش المتواضع الذي رسمه الفنان فان غوغ على أنه الكرسي الخاص به. وفي ذلك ومن دون شك دليل على إعجاب واهتمام الفنان فان غوغ بغوغان الذي اعتبره صديقا ومُعلما.

يذكر أن معرض “حالة حصار” يستمر في غاليري “تانيت” حتى الخامس والعشرين من شهر يونيو القادم.

14