الكاتب السعودي حبيب محمود: حاضرنا الأدبي ميت جماليا

بين الشعر والسرد ممرات عديدة، فكثيرون هم الشعراء الذين كتبوا سردا بقي عالقا في ذاكرة الأدب العالمي وتركوا فيه بصماتهم. ومن ناحية أخرى فإن كل كاتب ومبدع يملك بيئته الخاصة، تلك التي ينبت فيها وتصقل وعيه، فيصقلها بدوره في مخيلته. العلاقة بين الكاتب والمكان والزمن علاقة وثيقة؛ فهما ينحتان بعضهما. إذن هناك منبت لكل مبدع منبت مكاني زماني من جهة، ومنبت فني من جهة أخرى. عن هذا حاورت “العرب” الشاعر والكاتب السعودي حبيب محمود حول علاقته بالمكان والشعر وتجربته الروائية الأخيرة.
الثلاثاء 2015/06/30
الواقع ليس إلا أخبارا وخليطا من الحقائق والمماحكات الفجة الآنية

عمل الشاعر والروائي السعودي حبيب محمود في حقل الصحافة قرابة خمس وعشرين سنة متنقلا بين صحيفة اليوم في بداية التسعينات، ومجلة القافلة، وصحيفة الوطن، ثم أخيرا في صحيفة الشرق السعودية. وأثناء هذه الرحلة الصحفية الطويلة المسكونة بمتاعب المحرر الميداني والمكتبي، أطلق محمود للقراء ديوان “حافة أنثى” في 2007، ورواية “زمبوه” في 2014، وديوان “مهد غواية” في 2015، ورواية “كشوانية رقم 7” في 2015.

يبدو أن محمود لديه الكثير ليقوله سردا، فما إن انتهى من رواية “زمبوه” العام الماضي، والتي صدرت عن دار طوى، حتى أطلق هذا العام رواية “كشوانية رقم 7”، وبدأ في رسم مخطط روايته الجديدة “النخلاوي”، التي يتوقّع أن تصدر العام القادم مستعينا في رواياته جميعها بمناخات مدينة القطيف وقراها في فترة ما بعد النفط مباشرة، حيث التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبيرة، ولا سيما تلك التغيّرات المرتبطة بتأثيرات تصدير الثورة الإيرانية على الحزام الشيعي في منطقة الخليج العربي والعراق في مطلع الثمانينات، وكيف أثّرت هذه التغيّرات على الملامح الفردية والاجتماعية على مدى ثلاثين سنة، راصدا باختزال كبير جيلا كاملا تغيّرت ملامحه في هذه الحقبة الزمنية المهمة. كما يعمل محمود على مشروع بحثي اجتماعي لساني يقرأ فيه تفكير المجتمع الخليجي -القطيف نموذجا- من خلال موروثه اللسانيّ. يقول محمود “حتى الآن، ما زلت مصرا على تسميته “الخايسْ والخنين..”.

شهوة السرد

في البداية سألنا محمود عن سبب التنقّل بين منصة الشعر والسرد في إصداراته. هل هي “شهوة الكلام”، أم أن الشعر لم يعد قادرا على التعبير عمّا في نفسه. يجيب محمود “في الأصل، لا بدّ من شهوة تحرّض على الكتابة. غير أن الحقيقة هي أنني لم أنتقل، بل حاولت اللعبتين. نشرت قصصا قصيرة في التسعينات، قبل كتابة الرواية القصيرة. وليس جديرا بك أن تتخلّى عن شهوةٍ جامحةٍ في جنس كتابة يغويك، أكثر، على الاستطراد والاستحضار وإعادة بناء الحقيقة بناء غير مختزل”.

تأتي أحداث رواية «زمبوه» ضمن سلسلة روايات كتِبت من داخل القطيف ومن خارجها، حاولت أن توثّق لحقبة مهمة من تاريخ المنطقة الشائك، وهي حقبة الانقلابات الثقافية العجولة، حيث البترول جاء بديلا مفاجئا عن كل النسيج الاجتماعي، والإرث التاريخي الذي كان متناميا بهدوء.

في الرواية هناك إمكانية لبناء الحقيقة بناء جماليا لا إعلاميا، والحاضر مادة سردية يمكن الإفادة من شهواتها

كما تأتي أحداث رواية الكشوانية في أواخر السبعينات قبيل الحرب العراقية الإيرانية موثقة من خلال ذاكرة صبي سعودي لأسئلة تلك المرحلة. ويقال إن “الزمن الواقع” لم يعد كاشفا، لذا ارتدّ الروائي حبيب محمود لسبر أغوار الماضي الأكثر سهولة على السارد للتحليل وللتصوير، إذ لا رقابة “يوتيوبية” تمحّص صدق الرواية من عدمها.

يعلق محمود قائلا “الواقع ليس إلا أخبارا وخليطا من الحقائق والمماحكات الفجّة الآنية. هو زمن ميّت جماليا، على الرغم من حيويته وفاعليته إعلاميا وسياسيا واجتماعيا. هذا من وجهة نظر إبداعيّ أميل إليه. وما هو أهمّ هو إمكانية بناء الحقيقة بناء جماليا لا إعلاميا، للعمل الروائيّ بالذات. وهذا لا يمنع من كون الحاضر مادة سردية يمكن الإفادة من شهواتها إذا ألحّت”.

في رواية الكشوانية، خلق محمود شخصياته: علي، وصالح، والسيد طالب، ومعهم أم الصبي الصغير، ليستند عليها في استنطاق الراوي العليم بالقضايا الدينية والسياسية والثقافية، والتي لا يمكن أن تجري على لسان الصبي الصغير. وهذا ما أكّد عليه محمود: الصبي كان صغيرا، ليس لديه من الإدراك ما يكفي لقراءة محيطه المضطرب. ليس طفلا معجزة، ولا يمكنني منح عبقرية لطفل في الثانية عشرة. حاولت، قدر ما استطعت، أن أرسمه مصغيا متسائلا حائرا خائفا.

ويتابع حبيب محمود عن رواية “كشوانية رقم 7”: تطرح صفحاتي قراءة طفل غرّ لواقع أوسع من مداركه بكثير، عبر شخوص آخرين في الحكاية التي تختلط فيها أحداث واقعية بين مدينتي كربلاء العراقية والقطيف السعودية، عام 1980. إنها تأملات ساعات يسيرة من عمل الطفل السعودي في الكشوانية العراقية. وفيها، يستنطق الراوي الشخصيات الثانوية لتتحدث في تعقيدات ذلك العالم الحساس.

الرواية توثّق لحقبة مهمة من تاريخ القطيف الشائك

عالم الحكاية الأوسع هو ذلك المكان الصغير المعروف باسم “الكشوانية” وهي المكان الذي يضع فيه الناس أحذيتهم قبل الدخول إلى الحرم. حاولت -قدر ما استطعت- أن أركّز على التفاصيل في هذا المكان المعبور نمطيا، ليستطلع البطل/ الطفل ما وراء التوقف في هذا المكان وترك الأحذية فيه. أنا أنفي أن يكون للرواية خطاب سياسي نيْء، أو هدف ديني مهووس، أو تشدّق أخلاقي فجّ. فهي حكاية ساعات أدّعي أن سنوات تبزغ منها. إذا نجحت في ذلك، فسوف يتضاعف سروري، وإن أخفقت، فربما أعاود الكرة، أو أتراجع. لا أضمن توقعا محددا في الأمر”.

ألغام الرقابة

لقد تناول حبيب محمود في جزء من رواية الكشوانية أحداث 1980 في القطيف بالرصد والتحليل، ويرى بعض القراء أن محمود هو الروائي الأكثر كشفا وتفكيكا وقدرة على تحليل النسيج الاجتماعي والعقدي والسياسي في القطيف. الأمر الذي جعلنا نتساءل معه إن كنّا سنراه متناولا في أعمال قادمة حول انعكاسات الربيع العربي الحالي في القطيف.

يقول محمود: حتى أنا لا يمكنني التنبّؤ بما يمكن أن يقدم عليه حبيب محمود. الربيع العربي أكبر وأشدّ رعبا من مناخات أحداث 1980. أكبر وأشدّ فتكا وشراسة وعنفا وتأسيسا لمستقبل مخيف. ومن موقع أبناء جيلي أرى أن أحداث 1980 ليست أكثر من “بروفه” رديئة لأحداث الربيع العربي الحافل بالكثير من محرّضات التوقف والسرد. ويتوقف أمر سردها روائيا، أو حتى تاريخيا، على بزوغ شهوةٍ ما.

وفي ذات السياق يرى حبيب محمود أن المشكل الطائفي، في السعودية، جزء من أزمة أوسع تشمل القبلية والمناطقية والعرقية. والتخفيف من حدّة الأزمة ليس بيد الروائيين ولا الشعراء. تخفيف حدة الأزمة يتحقق بفعل القوانين والأنظمة التي تجرّم وتحاسب وتقاضي. الأدباء، عموما، يقدمون أعمالا جمالية، تضيء، وتلطّف، وتحاور. أما إصلاح الصدع فهو بيد صنّاع القرار.

عن مدى شجاعته كروائي في قول ما يريد قوله، أو أنه ناور كما يناور الصحفيون وكتّاب المقال وسط حقول الألغام الرقابية والأمنية، يقول ضيفنا: بالتأكيد لم يكن حبيب محمود شجاعا بما يكفي لقول كلّ ما يريد، ولا أكثر ما يريد. أظنّه مرّ من حوافّ كثيرة، وفتح ثقوبا صغيرة ليطلّ منها المتلقّي إذا أراد.

15