القنوات العربية بديل المشاهد المصري الهارب من إعلامه

يمتلك الجمهور المصري من الوعي ما يؤهله للفرز والانتقائية بين الإعلام المهني والأجوف، فلم يعد المشاهد رهينا للرسالة الجامدة أو عاجزا عن الوصول للبديل، لذلك يتوجب على القائمين على المنظومة الإعلامية في مصر إعادة رسم السياسات الإعلامية بما يتناسب مع متطلبات الجمهور.
تتصدّر القنوات الإخبارية العربية اهتمامات الجمهور المصري مع وقوع حدث هام، في محاولة للبحث وراء الكواليس والتحليل العميق والتوقعات المستقبلية لتداعياته، الأمر الذي لم يعد خفيّا على أغلب المسؤولين عن المنظومة الإعلامية في مصر.
ومع فشل الخطوات التي اتخذت لبث قناة إخبارية مصرية متطورة مؤخرا، لجأ قطاع كبير من المصريين إلى وسائل إعلام عربية، وجدوا فيها الدليل والملاذ لإشباع شهيتهم الإخبارية والمعلوماتية.
ولا يقتصر الأمر على النخب والمفكرين، فهناك مواطنون عاديون أصبحت الفضائيات والصحف العربية المحترفة منبرا مهما لمعرفة التطورات، يلجأون إليها للحصول على وجبات دسمة من المعلومات، والاستماع إلى وجهات النظر المختلفة.
وعند سؤال أيّ من هؤلاء عن السبب وراء هجرة القنوات المصرية، وهي عديدة، مقابل التهافت على نظيرتها العربية، مثل سكاي نيوز، والعربية، والعربية الحدث، والغد، أو القنوات الدولية الناطقة بالعربية، مثل “بي.بي.سي”، و”فرانس 24″، و”آر.تي”، تراه يتحدث ويبرر بطريقة توحي بأنه أقرب إلى خبير إعلامي وليس مجرد مشاهد.
وما يعكس أن الجمهور وصل إلى مرحلة متقدة من الوعي تؤهله للفرز والانتقائية بين الإعلامي المهني والتقليدي، ويتجنب قنوات مثل “الجزيرة” وشقيقاتها العاملات في تركيا، وكلها تتبنى وجهة نظر واحدة، يغلب عليها الطابع الأيديولوجي، وتناهض الدولة المصرية، ما جعل جمهورها في مصر قاصرا على من يقفون في خندقها.
لم يعد المشاهد المحلي رهينا للرسالة الجامدة التي تصل إليه ويعجز عن الوصول للبديل الذي يناسب أفكاره وتوجهاته في إعلامه، وتسربت هذه القناعة لأغلب القائمين على إدارة المنظومة، ومع ذلك يتمسكون ببقاء الوضع الراهن دون تطويره.
وأكد جلال نصار رئيس تحرير “الأهرام ويكلي” السابق، أن الكثير من الفضائيات العربية المؤثرة شارك في تأسيسها إعلاميون، بينهم مصريون، وجدوا من يُقدر خبراتهم وكفاءتهم، لكن المنظومة الراهنة في مصر تعج بأشخاص لا علاقة لهم بالمهنة، وبالتالي يتمسكون بخارطة إعلامية بعيدة عن اهتمامات الشارع.
وأضاف لـ”العرب” أن أكبر فارق بين القنوات العربية والمصرية، أن الأخيرة ليس لديها هدف أو أجندة تتحرك من خلالها، وتركز على القيام بدور قومي يتناسب مع توجهات الحكومة، بالتالي لا تقدم للجمهور ما يرضيه ليحافظ على ولائه للإعلام المحلي، لذلك يلجأ إلى المنابر العربية المحترفة.
وبرغم أن السياسة التحريرية للقنوات المؤثرة كانت تركز على الشأن المصري في القضايا الهامة فقط، لكن بعد زيادة الإقبال عليها أخذت تخصص مساحات أكبر للشأن المحلي، واستطاعت جذب انتباه الجمهور بسبب تناول المحتوى الخبري والتركيز على التحليل المتعمق للموضوعات الشائكة والبحث الاستقصائي الميداني.
وتوصلت دراسة أجراها قسم بحوث الاتصال الجماهيري بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في مصر (جهة حكومية) مؤخرا، إلى أن 40 في المئة من الشباب في مصر يتابعون الفضائيات العربية، بسبب الملل وعدم الثقة في المحتويات التي تقدمها القنوات المحلية، لاسيما عند تناول القضايا المحورية.
وتكفي ملفات مثل ليبيا وسد النهضة وشرق المتوسط وفلسطين، وهي في صميم الأمن القومي المصري، للوقوف على الفارق بين تغطية القنوات العربية مقارنة بنظيرتها المصرية. فالأخيرة تقتصر تغطية الأحداث غالبا على البيانات الصحافية، في حين أن هناك شبكة مراسلين لمحطات عربية تنقل ما يجري على مدار الساعة بدقة واحترافية.
معضلة الكثير من القنوات أنها تخضع لتوجهات أطراف متشعبة، فهناك وزارة الدولة للإعلام، والهيئات المنظمة للإعلام، والشركة المتحدة المالكة لبعض المحطات، وكل جهة لديها رؤية تريد تطبيقها دون اتفاق على هدف الرسالة الإعلامية.
وصنعت فضائية عربية مثل “إم.بي.سي.مصر”، لنفسها جماهيرية برغم تركيزها على النواحي الفنية والاجتماعية والمنوعات، لكن لأنها تمتلك خارطة برامجية واضحة، باتت في مقدمة القنوات التي يقبل عليها المصريون.
ويرجع تفوق القنوات العربية إلى الابتعاد عن التخبط الحاصل في الإعلام المصري، وعدم تداخل الاختصاصات والتوجهات وانتفاء الصراعات على النفوذ، أو على الأقل لا يشعر بها المشاهد.
وبغض النظر عن هامش الحرية الممنوح، فالواقع يبرهن أن الاحتراف الإعلامي لا يتطلب ارتفاع سقف الحريات إلى عنان السماء بقدر ما يرتبط بطبيعة القائمين على إدارة المنظومة، فليست كل القنوات المؤثرة تتمتع بحرية مطلقة، لكنها تجيد توظيف القدرات البشرية المهنية وأصحاب التخصص الحقيقيين.
وقال أسامة هيكل وزير الدولة للإعلام المصري، في لقاء تلفزيوني قبل أيام، إنه قدم خطة متكاملة للرئيس عبدالفتاح السيسي لإصلاح المنظومة، على رأسها استبعاد غير المتخصصين من المشهد والذين ليست لهم علاقة بالمهنة، كما أن غضب الجمهور المصري مما يحدث له مبرراته.
ويرى متابعون أن معضلة رؤوس المنظومة الإعلامية أنهم يتدخلون أحيانا لمنع التطرق لموضوعات وأحداث بعينها دون مبررات، ولا يدركون أنه في عصر السماوات المفتوحة يصعب إخفاء شيء على الجمهور، الذي صار يبحث عن سرعة الوصول للمعلومة من أي منصة خبرية غير محلية.
وأشار جلال نصار إلى قناعة بعض القائمين على إدارة الإعلام المصري، بأن الاستعانة بمذيع شهير تكفي لنجاح المحطة، متجاهلين وجود قنوات عربية لا يعرف كثيرون أسماء مقدمي برامجها، لكنهم ناجحون ومؤثرون ولهم جماهيرية ومصداقية.
ويصعب فصل هذه القناعات الخاطئة عن غياب ما يُعرف ببحوث الرأي لدى القنوات المصرية، فلا توجد استطلاعات دورية للجمهور لمعرفة آرائه في الرسالة الإعلامية الموجهة، ومدى تقبله من عدمه، بحيث يكون التطوير ملائما لتطلعات الفئات المستهدفة، كي لا يصبح عشوائيا.
وفي كثير من الأحيان يتم فرض بعض المذيعين، ولو كانت شعبيتهم وصلت إلى الحد الأدنى، وأغلب مقدمي البرامج عندما يتناولون حدثا إقليميا أو محليا يتحدثون كأنهم متخصصون في كل المجالات دون الاستعانة بخبراء ومسؤولين لهم علاقة بالأمر.
وأوضح حسن عماد مكاوي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، أن المذيع المتخصص في كل القضايا صار أزمة حقيقية للإعلام المصري، ولأن الجمهور يبحث عما وراء الخبر، يلجأ إلى قنوات عربية تركز على مناقشة كل قضية من مختلف جوانبها من خلال خبراء مشهود لهم بالمصداقية.
وقال لـ”العرب” إن أغلب القنوات المصرية تناقش الحدث من زاوية الخبر، وهذا متاح في كل المنصات، لكن الاحتراف في الصياغة وطريقة العرض والتحليل وأبعاد القضية وشبكات المراسلين. وهنا يكون الإبداع والتميز الذي يستقطب الجمهور.
ويرى الكثير من أبناء المهنة في مصر أن هناك كوادر وخبرات وبنية تحتية لكن استخدامها يكتنفه الغموض، فالحكومة بإمكانها الحد من وسائل الإعلام غير المؤثرة واستبدالها بفضائية إخبارية ضخمة ذات تأثير إقليمي، غير أن الفكرة لم تصل بعد حد الضرورة الحتمية، كأن هناك من يعطلونها، ليبقى الإعلام المصري عاجزا.