القضاء المصري يصنف الزواج المبكر تجارة بالبشر لتعزيز العقوبات

محكمة تحرج الحكومة وتحبس أبا 10 سنوات لتورطه في زواج طفلة.
الثلاثاء 2024/11/26
زواج القاصر جريمة

رحبت الأوساط الحقوقية والنسائية المعنية بشؤون الطفل والمرأة في مصر بالحكم القاضي بسجن أب تورط في زواج ابنته الطفلة 10 سنوات. وصنفت المحكمة الزواج المبكر على أنه تجارة بالبشر لتعزيز العقوبات واستندت عليه لإقناع الحكومة بأن تتعامل بالمثل وتتحرك لإعادة النظر في العقوبات المطبقة. وكانت المنظمات الحقوقية والأحزاب قد توافقت على حتمية تصنيف الزواج المبكر كجريمة تستوجب عقوبات رادعة.

القاهرة– تسبب حكم قضائي صدر عن محكمة جنايات القاهرة بتصنيف الزواج المبكر “اتجارا بالبشر” في حرج بالغ للحكومة، حيث تراخت في إقرار عقوبات مشددة ضد تزويج القاصرات في سن صغيرة ما دفع القضاء إلى التعامل بصرامة مع المتورطين.

وأصدرت محكمة الجنايات حكما بحبس رب أسرة لمدة عشر سنوات لتزويج ابنته في سن الرابعة عشرة من رجل يكبرها بنحو سبع وعشرين سنة، وكان يعلم أن الزواج بغرض جنسي، ما عدّته المحكمة “اتجارا بالبشر” يستحق عقوبة السجن المشدد.

واقعيا، لا يتضمن قانون الطفل الخاص بسن الزواج عقوبة الحبس لعدة سنوات ضد الأب المتورط في تزويج ابنته، لكن المحكمة لجأت إلى نصوص تشريعية خاصة بعقوبة الإهمال وتعريض حياة الطفل للخطر، وتصل إلى الحبس عشر سنوات كحد أقصى، وهي مدة توازي ضعف عقوبة الزواج المبكر.

وقالت المحكمة في قرارها إن تزويج الطفلة قبل بلوغها السن القانونية، بإرادتها أو رغما عنها، هو اتجار بالبشر يحمل صبغة جنسية، بما يعرضها للخطر ويهدد حياتها ومستقبلها، كما أن معاشرتها من جانب زوجها يرتقي إلى الاغتصاب وهتك العرض، لقلة حيلتها وصعوبة دفاعها عن نفسها.

الزوجة القاصر ليس لها حقوق إذا حملت لقب مطلقة قبل بلوغها السن القانونية، حيث ترفض المحاكم قبول دعواها

وتتناقض تلك التوصيفات القضائية مع المنطق الذي تتعامل به الحكومة مع الزواج المبكر، حيث تتهاون في مسألة تطبيق العقوبات المشددة ضد المتورطين في الواقعة، ما جعل المجتمع يتساهل مع القضية بحجة أن الحكومة لا تتعامل بجدية وحسم.

واستقبلت أوساط حقوقية ونسائية معنية بشؤون الطفل والمرأة حكم القضاء الجنائي بترحيب وإشادة، واستندت عليه لإقناع الحكومة بأن تتعامل بالمثل وتتحرك لإعادة النظر في العقوبات المطبقة ولم تعد تصلح أمام تشعب الظاهرة على وقع شعور الأهالي بأن هناك تهاونا وعدم جدية في المواجهة.

ويفترض أن المنظمات الحقوقية والأحزاب والشخصيات العامة قد توافقت خلال جلسات الحوار الوطني مؤخرا على حتمية تصنيف الزواج المبكر كجريمة تستوجب عقوبات رادعة، والتعامل مع زواج القاصرات باعتباره يحمل تجارة بالبشر.

وقاد التراخي الحكومي في مواجهة زواج الأطفال إلى ارتفاع المعدلات في مصر لنحو 25 في المئة، وفق تقديرات وزارة الصحة، وسط اتهامات للقانون الحالي بأنه السبب في ارتفاع النسبة، حيث تصل العقوبة إلى الحبس لعام واحد، ونادرا ما تنفّذ لأن غالبية الزيجات تتم بصورة سرية.

يضاف إلى ذلك أن الأحكام الصادرة بشأن قضايا زواج الأطفال عبارة عن “جنحة”، وليست جناية، وأمام تشعب الثغرات التشريعية التي يستثمرها المحامون، أفلت أغلب المتورطين من السجن، ما ساعد على تنامي الظاهرة أمام الاستخفاف بالعقوبة.

الكثير من الأسر التي تقوم بتزويج بناتها في سن صغيرة لا تعرف شيئا عن وجود عقوبات ضد زواج الأطفال، سواء أكانت مشددة أو ضعيفة

ويرى مختصون في شؤون الأسرة أن العقوبات الرادعة مطلوبة كنوع من الترهيب، المهم أن يشعر المجتمع نفسه بتعامل الحكومة مع الملف كقضية أمن قومي، وأن لديها إرادة لمواجهة من يتاجرون بأجساد بناتهم، وفي غياب ذلك لن تكون للعقوبة أهمية.

ما يلفت الانتباه أن الحكومة المصرية وافقت على رفع عقوبة الزواج المبكر لتصل إلى سبع سنوات، لكن لم تتقدم إلى مجلس النواب بتعديل تشريعي، أو تضعه على رأس الأجندة البرلمانية، رغم وجود توافق مجتمعي وحقوقي وسياسي على ذلك.

ويعتقد فريق آخر أن العقوبة المشددة كفيلة بجعل البعض يعزفون عن تزويج القاصرات، لكن الأهم في التركيز على توجيه خطاب مقنع للمجتمع يحذّر من ضياع حقوق كل فتاة تتزوج في سن صغيرة وإمكانية تنصل زوجها منها طالما أن عقد الزواج غير موثق رسميا.

ومعروف أن الزوجة القاصر ليس لها حقوق إذا حملت لقب مطلقة قبل بلوغها السن القانونية، حيث ترفض المحاكم الأسرية قبول دعواها، ما يتطلب التركيز على التثقيف بخطاب مدعوم بالترهيب بدلا العقوبات فقط، لأن القضية برمتها مرتبطة بتراجع منسوب الوعي الأسري.

ويمكن ترهيب المجتمع من الزواج المبكر إذا جرى التركيز على أنه تجارة بالبشر واغتصاب مقنن، لأن مثل هذه التوصيفات في حد ذاتها مثيرة لمخاوف الكثيرين، وتتعارض دينيا وعرفيا مع ثقافة الأغلبية السكانية، لكن تظل العبرة في آلية تسويقها للناس كنوع من التوعية المدعومة بالترهيب.

ويظل تغليظ عقوبات زواج الأطفال ليكون جريمة بسنوات حبس طويلة المدى توجها مطلوبا، وخطوة تأخرت كثيرا، لكن هناك شبه اتفاق حقوقي على أن التعويل على ذلك فقط، لن يحقق الغرض قبل إقرار خطة توعوية وثقافية متكاملة تستهدف مواجهة متشعبة مع زواج الصغيرات.

وأكد الباحث في القضايا الأسرية والاستشاري النفسي محمد هاني أن صرامة العقوبات جزء من حل أزمة زواج الأطفال، لأن هناك شريحة معتبرة تتعامل مع هذه العلاقات باعتبار أنها زواج، ومهم تغيير تلك النظرة بإعادة تقديم تعريفات مخيفة عن هذه الزيجات لعدم التصاقها بالزواج.

التراخي الحكومي في مواجهة زواج الأطفال قاد إلى ارتفاع المعدلات في مصر لنحو 25 في المئة، وفق تقديرات وزارة الصحة

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن توصيف القضاء للزواج المبكر على أنه تجارة بالبشر بداية العلاج الحقيقي للأزمة، وهذا يجب أن يصل إلى عموم المجتمع لتغيير قناعات الناس حول هذه النوعية من العلاقات، فهي ليست زواجا، طالما أن المؤسسة الدينية حرّمته، والقانون جرّمه.

والأهم عدم تجاهل توعية الضحية نفسها بأن ما تتعرض له جريمة وليس زواجا، بحيث تكون على فهم ووعي وإدراك حال تعرضت إلى ضغوط أسرية لإجبارها على الزواج وهي قاصر، وتعرف كيفية التصرف في مثل هذه الحالات كي تنأى بنفسها عن الوقوع في دوامة الاتجار أو انتهاك الجسد.

وجزء من المشكلة أن الكثير من الأسر التي تقوم بتزويج بناتها في سن صغيرة لا تعرف شيئا عن وجود عقوبات ضد زواج الأطفال، سواء أكانت مشددة أو ضعيفة، في ظل ارتفاع معدلات الأمية بشكل ملحوظ في العديد من المناطق التي تنتشر فيها تلك الظاهرة، لاسيما البيئات الريفية والشعبية والقبلية.

وترتب على ذلك أن شريحة كبيرة من الأسر تتعامل مع الزيجات المبكرة كعرف وتقليد مجتمعي، ولا تُدرك عواقب تصرفاتها المخالفة للقانون، لأن الخطاب التوعوي الذي تتشارك فيها منظمات حكومية وأخرى مدنية، يظل شكليا وسطحيا ولا يشتبك مع الناس على أرض الواقع.

وتشارك بعض المؤسسات الرسمية في الأزمة بشكل غير مباشر، لأنها لم تتحرك لإعداد قاعدة بيانات دقيقة بالمناطق الأكثر تقديسا للأمومة المبكرة للنزول إليها ومحاورة العائلات فيها بشكل مباشر وتوعيتها بالعقوبات والحقوق الضائعة للفتاة وأولادها، ومخاطر حصولها على لقب مطلقة في سن صغيرة.

وإذا جرى تغليظ العقوبة ليقوم القضاء بدوره في ردع المخالفين سوف تظل هناك أزمة أكبر مرتبطة بتبرئة من يتزوجون صغيرات، مقابل محاكمة الأب وحده، مع أن كل شاب بالغ لو جرت محاكمته بتهمة ارتكاب جريمة الزواج من طفلة واستغلالها جنسيا، ولو برضاها، فلن تتكرر تلك الوقائع بنفس المعدلات.

15