القدس بعد السابع من أكتوبر

تحتل القدس موقعا رئيسيا في الفكر الصهيوني الإسرائيلي بسبب الرؤية التوراتية لها، وأهمية هذه الرؤية في تعبئة وحشد الرأي العام اليهودي في الشتات وربطه بـ”أرض الميعاد”، وتوجيهه للهجرة إلى فلسطين. بذلك، تحقق الصهيونية تطبيق شعارها بعودة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”.
وقد شكلت هذه النظرة الخاصة لفلسطين عامة، وللقدس بخاصة، القاعدة التي انطلقت منها سياسات الاستيطان والتوسع الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن الحركة الصهيونية هي حركة استعمارية علمانية لا علاقة لها بالدين اليهودي أو التوراة، إلا أنها طبعت نفسها وبرامجها وأنشطتها بطابع تاريخي ديني يهودي تراثي أسطوري. كان ذلك بهدف إنجاح عملية الحشد والهجرة لإقامة الدولة اليهودية، والعودة باليهود إلى الأرض المقدسة، واتخاذ القدس (أورشليم) عاصمة لهم، وبناء هيكلهم المزعوم فيها.
بتنا نتلقى الضربة تلو الضربة. فالولايات المتحدة الداعم والحاضن لإسرائيل، وأوروبا العاجزة عن أن تنطق كلمة، وعالمنا تنقصه وحدة الكلمة ووحدة المصير. أصبحنا اليوم ننتظر ما يؤول إليه مصيرنا
تسابق الحكومة الإسرائيلية الحالية الزمن لفرض وقائع جديدة على مدينة القدس، وتسخّر إمكانياتها ومواردها كافة لشرعنة جملة من الإجراءات التهويدية وطمس كل ما هو عربي لتغيير الوضع القائم فيها، والاستفراد بها. إلى جانب ذلك، تصاعدت وتيرة مصادقة حكومة الاحتلال على مشاريع استيطانية، في إطار استكمال تهويد المدينة بشكل نهائي، وإلغاء الفصل بين “شطريها الغربي والشرقي”، وعزلها عن محيطها الفلسطيني، وإحلال مستوطنين مكان أصحابها الأصليين من الفلسطينيين.
تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتكررة حول القدس ليست بالجديدة. فإسرائيل ماضية في تهويد القدس وضم أراضٍ أخرى إليها والواقعة في محيطها. لقد قال إسحاق رابين في وادي عربة الأردنية، بعدما وقّع اتفاق سلام مع الملك حسين “لقد جئتكم من القدس عاصمة إسرائيل الأبدية.” وحتى لا ننسى، فقد أُطلق على هذا الرجل، الشريك في صنع سلام الشجعان، النار. ذهب رابين بعدما أعلن عن خطته للسلام، فكان ضحية السلام. فأي سلام هذا الذي أوهم به رابين الناس قبل رحيله، وكان سببا رئيسيا في اغتياله؟ أسطورة السلام تركت إرثا لأسلافه، وهو أن القدس عاصمة إسرائيل وليست ضمن مخطط السلام بأيّ حال من الأحوال.
لقد سمعنا بعد اتفاق كامب ديفيد الثاني كيف راوغ أيهود باراك، الرئيس الإسرائيلي الأسبق، الرئيس الراحل ياسر عرفات في التفاوض حول القدس. لم يستطع باراك أن يقدم تنازلا في المدينة المقدسة، لأنه أيقن أنه إذا فعل ذلك، فإن مصيره حتما سيكون كما حصل مع سلفه رابين. هذا فضلا عن المعتقدات التوراتية التي يتغنى بها اليهود.
أما غولدا مائير، فهي الأخرى كانت تعلم بأن هناك مخططا داخل دولتها لعناصر متطرفة لحرق الأقصى. وقد تم حرق الأقصى، واكتفى العالم بالإدانة فقط.
الساسة الفلسطينيون اليوم يدركون أن المفاوضات وصلت مع إسرائيل إلى طريق مسدود بعد السابع من أكتوبر. التعنت الإسرائيلي زاد من صلابة الحال، وربما يقود إلى طمس القضية الفلسطينية.
الساسة الفلسطينيون اليوم يدركون أن المفاوضات وصلت مع إسرائيل إلى طريق مسدود بعد السابع من أكتوبر. التعنت الإسرائيلي زاد من صلابة الحال، وربما يقود إلى طمس القضية الفلسطينية
إن إسرائيل غير مكترثة البتة بتحريك قطار المفاوضات المنبثقة عن أوسلو. هذا يعني أن إسرائيل الآن في طور تسويق قرارها السياسي والديني عالميا. وأهم ما تخطط له خلف الغرف المغلقة يتعلق بكنيس الخراب وإعادة بناء جبل الهيكل. خطوة صنع القرار جاهزة، وتنفيذ القرار الآن يتم سبره من خلال الماكينة الإعلامية الإسرائيلية، وجس نبض الشارع الإسلامي والعربي والعالمي.
ما يخيفنا، وبصراحة، هو ردة الفعل التي لا ترتقي إلى حد المسؤولية في المجتمعين العربي والإسلامي. فهذا يساعد على دخول بناء الهيكل حيز التنفيذ، نظرا إلى زخم الأحداث ووتيرتها المتسارعة. تستغل حكومة نتنياهو الأوراق المختلطة في سوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية، وأيضا وجود ترامب على رأس الحكم في الولايات المتحدة.
لا ننكر أن إسرائيل تعمل بنفس طويل، وتعمل كخلية نحل ليل نهار من أجل تحقيق حلمها النهائي، وهو بناء الهيكل. حكومة إسرائيل الحالية تعد دراستها في ما يتعلق بترويض العالم قاطبة، ومنه العالم العربي والإسلامي، وتخديره لكي تمرر مخططاتها.
بعد هذا السرد، وضعت حماس ملف القدس في القاع. بات المطلب اليوم فقط وقف العدوان على غزة، وكبح جماح المستوطنين في الضفة الغربية. وقد أصبحت القدس كلها في قبضة نتنياهو وحكومته اليمينية، وزادت حدة تهويدها. استغلت إسرائيل طوفان 7 أكتوبر وما آلت إليه الأمور. لهذا، فقدنا البوصلة تماما ولم نعرف من أين نبدأ.
لنتأمل كيف تجري الأمور؛ بتنا نتلقى الضربة تلو الضربة. فالولايات المتحدة الداعم والحاضن لإسرائيل، وأوروبا العاجزة عن أن تنطق كلمة، وعالمنا تنقصه وحدة الكلمة ووحدة المصير. أصبحنا اليوم ننتظر ما يؤول إليه مصيرنا. فالخوف من القادم هو ما يقلقنا، وهو الهجرة الطوعية من غزة والضفة الغربية.