القاهرة تستعين برجال الدين لتوعية أسر الريف بالصحة الإنجابية

تدرك الحكومة المصرية أن أي خطط لخفض معدلات الإنجاب في البلاد بلا اعتماد على الخطاب الديني ستكون بلا جدوى، لذلك ارتأت الاعتماد على الآلاف من الفقهاء والقساوسة في التصدي لاستسهال الإنجاب. ونظمت الحكومة حملات توعوية تعتمد أساسا على رجال دين ينزلون إلى أرض الواقع، ويعقدون جلسات مباشرة مع الأسر خصوصا الريفية لإقناعها بتحديد النسل.
القاهرة - تجاوزت الحكومة المصرية مرحلة الاكتفاء بتوجيه خطاب عام للأسر الريفية التي تدعم كثرة المواليد، وقررت الذهاب إلى مقار سكنهم ضمن حملة موسعة تستهدف مناطق معروفة بضعف الوعي بالصحة الإنجابية والأمومة السليمة وارتفاع الأمية.
وقرر المجلس القومي للمرأة (جهة حكومية) الاستعانة بعشرة آلاف شخصية دينية، من الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف والكنيسة، لعقد جلسات تسمى “جلسات الدوار”، ستوجه إلى الأسر التي تعيش في مناطق ريفية تعد الأكثر تناسلا، وإقناع سكانها بأهمية الصحة الإنجابية، لأن هذه الفئة معظمها من أصحاب مستوى تعليمي متوسط.
ترمي الزيارات الميدانية للأسر إلى توصيل خطاب توعوي مباشر إلى الآباء والأمهات، وكذلك الشباب والفتيات المقبلين على الزواج، بحتمية التخلي عن معتقدات قديمة للإنجاب غير المنضبط، وتوضيح خطورته الصحية، ولا علاقة لذلك بالدين.
الزيارات الميدانية ترمي إلى إيصال خطاب مباشر إلى المقبلين على الزواج، يوعّيهم بحتمية التخلي عن الإنجاب غير المنضبط
وتركز “جلسات الدوار” على القرى النائية والمناطق الحدودية التي لا يصل إليها سريعا خطاب الحكومة الإعلامي والثقافي والتوعوي، وتصنف على أنها مناطق تتصدر قائمة البيئات السكانية التي يزداد فيها معدل الإنجاب، حيث لا يكترث الأهالي هناك بما تسوق له المؤسسات الدينية أو المنابر الإعلامية حول القضية.
وتقرر استمرار تلك الجلسات إلى حين القضاء على الإنجاب غير الصحي وما يترتب عليه من مخاطر عدة للأمهات في المستقبل، على أن يكون ذلك عبر رجال الدين والمتخصصين، الذين يتحدثون مع الأهالي بخطاب مرن ومبسط وسهل يتناسب مع تقاليد وأعراف سكان كل منطقة ريفية أو حدودية تغلب عليها القبلية.
وأدركت الحكومة أن أي خطط لخفض معدلات الإنجاب في البلاد بلا اعتماد على الخطاب الديني ستكون بلا جدوى، ما يفسر التوسع في الاعتماد على الآلاف من الفقهاء والقساوسة في التصدي لاستسهال الإنجاب، حيث يكون الخطاب الدعوي هو أساس المواجهة، طالما أن الأزمة الأكبر مرتبطة بميراث فقهي قديم.
يرى متخصصون في العلاقات الأسرية بالقاهرة أن الوصول إلى الفئات الأكثر إيمانا بكثرة المواليد من خلال متخصصين ورجال دين وأطباء وشخصيات مؤثرة في المناطق الريفية يُسهّل ضرب المعتقدات الخاطئة التي توارثتها الأجيال المتعاقبة، سواء أكانت مرتبطة بالدين أو العزوة أو الطقس المجتمعي المرتبط بالعادات.
وتعي الحكومة أن رجال الدين أهم فئة يمكنها التأثير على أصحاب المستوى التعليمي المتوسط في المناطق الريفية لارتباط الأغلبية بتعاليم دينية يصعب تغييرها بسهولة، لأن هناك نصوصا تتعارض مع ما تروج له الحكومة من خطط مرتبطة بملف الزيادة السكانية.
ومهما كان هناك خطاب ثقافي وإعلامي يحذر من خطورة استسهال الإنجاب على صحة الأم من دون دعم هذا التوجه بوعي ديني، سيكون بلا عوائد ملموسة، لأن الأغلبية السكانية في المناطق الريفية تتعامل مع المرأة باعتبارها وسيلة للإنجاب والتكاثر، وإذا امتنعت تكون ارتكبت مخالفة دينية تستوجب العقوبة الأسرية.
قالت هالة حماد استشارية العلاقات الأسرية وتقويم السلوك في القاهرة إن النزول إلى أرض الواقع وسيلة فعالة لنسف المعتقدات الخاطئة عن عادة الإنجاب المتكرر، لكن من المهم عدم ترك أي ثغرة ينفذ منها المؤيدون لمفهوم العزوة، لأن ذلك يؤثر سلبا على صحة المرأة وظروف الأسرة ومستقبل الأبناء والاعتماد على الخطاب الديني وحده ليس كافيا.
وأضافت لـ”العرب” أن المواجهة الفكرية والثقافية والدينية على الأرض أهم من أي خطاب تقليدي يروج له متخصصون عن ملف القضية السكانية، لأن الشريحة الأكبر لا تعرف شيئا عن الإنجاب الصحي والأمومة الصحية في ظل الانتشار الواضح للمفاهيم الدينية التي ما زالت تربط كثرة المواليد بالتقرب إلى الله، ودون ذلك معصية.
وتعاني الحكومة من صعوبة ترسيخ مفهوم تنظيم النسل لدى المواطنين في المناطق الريفية والنائية والفئة الأمية، وهؤلاء يمثلون نحو 40 في المئة من المجتمع، وينظرون إلى كثرة الإنجاب على أنه سند اقتصادي لهم، حيث يتم استثمار الأبناء في أعمال حرفيّة ووظائف يقومون من خلالها بالإنفاق على متطلبات الحياة المعيشية للأسرة.
وتصدق هذه الفئة أحيانا شيوخ السلفيين الذين يحتكون بالشارع أكثر من العناصر العاملة في مجال تنظيم الأسرة، حتى أصبحت هناك فجوة بين الحكومة والشارع في فضاء تنظيم النسل والإنجاب المنضبط، كما أن خطاب المؤسسات الدينية لا يصل إلى نفس الفئة، لأنه يوجّه للشارع من خلال الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
وأيّد الأزهر ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف والكنيسة رؤية الحكومة حول تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية، لكن الشريحة الأمية لا تستوعب ذلك، وكانت هناك حاجة إلى الاعتماد بشكل أكبر على رجال دين ينزلون إلى أرض الواقع، ويعقدون جلسات مباشرة لإقناع العائلات بأن المعتقد الديني حول كثرة الإنجاب ارتبط بأحاديث وتفسيرات لم تعد تصلح لهذا العصر.
يؤكد داعمون للخطوة أن الفتوى الميدانية أقصر الطرق لتغيير مواقف الفئات الفقيرة وغير المتعلمة التي تعتبر سببا في الزيادة السكانية، لأن الدين من الأساسيات التي تسيّر حياتهم، ومهما كانت هناك مبادرات حكومية وإعلامية بلا دعمها بفتوى تصل إلى الناس مباشرة دون وسيط إعلامي أو عبر منصات التواصل، فلن تؤتي ثمارها.
الحكومة المصرية تعاني من صعوبة ترسيخ مفهوم تنظيم النسل لدى المواطنين في المناطق الريفية والنائية والفئة الأمية، وهؤلاء يمثلون نحو 40 في المئة من المجتمع
وكشفت منظمة الصحة العالمية في تقرير سابق لها أن عزوف شريحة كبيرة من المصريين عن خفض المواليد والاقتناع بالحد من الإنجاب وفق الإمكانيات الاقتصادية يرجع إلى أسباب دينية في المرتبة الأولى، ثم ثقافية وفكرية في المرتبة الثانية، لكن إذا عولجت المشكلة الدينية فإن باقي الأمور سهلة مواجهتها.
ويقود ذلك إلى أن ضبط الخطاب الديني المرتبط بالصحة الإنجابية لن يتحقق في غياب تحرك مواز بإحكام السيطرة على الأئمة والشيوخ الذين يتحرّكون في اتجاه معاكس، وهؤلاء اعتادوا الفتوى بأن تدخل الأهل في تحديد الإنجاب حرام، ولا علاقة لتنظيم الأسرة بالحفاظ على حياة الأم والطفل.
أقرت الحكومة المصرية مؤخرا بوجود 17 مليون أمي في مصر، وهم هدف سهل للتيارات المتشددة التي تحارب الدولة بالفتوى مستغلة تغييب العقل، وبالتالي مهم أن يكون هناك دور للمساجد والكنائس ورجالها على الأرض بخطاب بسيط يناسب الأميين ويستوعب حدود فهمهم للقضية وأبعادها.
وسبق وأعلن المجلس القومي للسكان بمصر أن من أكبر التحديات التي تواجه نشر ثقافة الصحة الإنجابية وخفض المواليد أن الدعاة العشوائيين أقنعوا الناس بأن الإسلام يشجع على كثرة الإنجاب، وتغيير الفكرة مهمة صعبة عندما تصل معدلات الأمية بين النساء في مصر إلى نحو 31 في المئة، وفي بعض المحافظات تقترب من الضعف.
يؤكد متابعون للقضية أن التعويل على الخطاب الديني وحده لن يحل الأزمة في البيئات المحافظة، ولا بديل عن تغير خارطة التنمية في هذه المناطق لتتناسب مع ظروف الشريحة التي تقدس المواليد بالتركيز على تشييد مشروعات بمناطق تنتشر فيها ثقافة الولادات لتكون لدى سكانها قوة اقتصادية تغنيهم عن “العزوة” كسند مادي.