الفوتوغرافيا والسينما نموذجان للثقافة الجمالية المعاصرة

شكلت العلاقة بين الجماليات والتقنية في العمليات الإبداعية هاجسا بحثيا مستمرا في مركز اهتمام الغرب لتنتج أبرز مظاهرها المتمثلة في النظرية الجمالية الفوتوغرافية والسينمائية، والتي قامت على التحليل الفلسفي لهذه الفنون الجديدة نسبيا مقارنة بغيرها من صنوف الإبداع الكلاسيكية، وهذا ما يؤسس له العالم الجمالي كانستنتين باندوبولو في كتابه “الفوتوغرافيا والسينما في النظام الثقافي المعاصر”.
في كتابه “الفوتوغرافيا والسينما في النظام الثقافي المعاصر” حاول البروفيسور كانستنتين باندوبولو أستاذ علم الجمال السينمائي والتلفزيوني استعراض أهم مراحل تكون النظرية الغربية الفوتوغرافية والسينمائية عن طريق تكثيف الضوء على أهم الممثلين للتيارات الجمالية المختلفة والتي تعطي في مجموعها قدرا من المعرفة عن الطابع التكويني التاريخي لعلم جمال الفوتوغرافيا والسينما.
رأى باندوبولو في كتابه، الذي ترجمه المخرج وجدي كامل صالح وصدر أخيرا عن دار العين، أن “التحولات العميقة التي تجري في عالمنا الراهن تدفع إلى النظر بصفة جديدة في شبكة المفاهيم التي نحملها عن الحياة في كافة نواحيها. والفن باعتباره مستوى خاصا من معرفة الحياة مجال جدير بالقراءة ارتباطا بتلك المتغيرات في حقليه التطبيقي والنظري. فالنشاطان الجمالي والفني يتأثران أيما تأثر بظروف ومتغيرات الواقع بسبب اقترابهما الخاص منه، وارتباطهما معه من حيث الطبيعة، وفي هذا الاتجاه يستلزم النظر وبالدرجة الأولى للأدب والسينما”.
مراحل التطور
وأشار إلى أن تاريخ السينما يمثل لذلك الاتصال الوثيق مع التقاليد الفنية من ناحية ومع التقدم العلمي التقني من الناحية الأخرى، فالسينما في جوهرها نوع إبداعي جديد، إنتاج دال على عمق الروابط الجدلية المتناقضة بين تاريخ الأفكار الفنية والتطورات العلمية والتقنية، وفي مضمون ذلك تكمن طرافتها وخصوصية دورها في تطور الحضارة والثقافة المعاصرتين. والفن السينمائي اتصل وفي مختلف مراحل تطوره بالفوتوغرافيا على ذلك النحو الذي اتهم فيه باستعارة التقنية الفوتوغرافية. وللحقيقة فإن الفوتوغرافيا لم ينظر إليها في أغلب التجارب البحثية كفن مستقل، بحيث يتم منحها الصفة والمعنى الفنيين في حالتين، هما: عندما تدخل كعنصر مشارك في منظومة الفنون التشكيلية وتحتل مكانة الرسم أو الغرافيك، وعندما تقوم بوظيفة الأساس التقني في صياغة الصورة السينمائية.
توقف باندوبولو عند ثلاث مراحل أولاها تمتد في إطار العشرينات، حيث تبدأ السينما فيها بالتخلص المتدرج من أسر قبيلة الفنون المجاورة مثل: الرسم والمسرح والأدب، وتعمل على التأكيد على طبيعتها الخاصة ذات الارتباط بالفتوغرافيا. ويقول “يقترح مؤسسوا النظرية الغربية في تلك الفترة مصطلح الفوتوغرافيا التلازمية أو الارتباطية ذات العلاقات المتجذرة مع تاريخ الفوتوغرافيا. إن ذلك الفهم يحفر في مفاهيم ب. بالازس ـ المنظر الأول الذي منح النظرية الغربية للسينما الصفة النظامية ـ “السينما كرؤية فنية”.
الفن السينمائي اتصل في مختلف مراحل تطوره بالفوتوغرافيا على نحو اتهم فيه باستعارة التقنية الفوتوغرافية
المرحلة الثانية لتطور النظرية الغربية للسينما التي يتوقف عندها باندوبولو تبدأ مع استقرار المفهوم الإبداعي الفني لها وقفزه إلى المرتبة الأولى بتفكير الباحثين والنقاد والمنظرين حين مضت التجربة الإبداعية الوظيفية للسينما خطوات في سبيل التأكيد على استقلاليتها من الفوتوغرافيا، لكن دون نقض دور الخصائص الإبداعية الفوتوغرافية في عملها ـ الموقف التحليلي من وجهة النظر الجمالية والذي تعبر عنه مؤلفات طائفة من الجماليين الغربيين أمثال ب. أرنخيم، ب. بنيامين، ب. ياكبسون، يا. موكارجوفسكي، أ. بازين، وأ. كراكاور.
ويضيف أن المدخل الجمالي لتلك المرحلة الممتدة من الثلاثينات حتى الخمسينات لم يلغ التقاليد ـ البداية التي أسس حالة الوعي بها كراكاور من خلال مفهومه عن الفوتوغرافيا المتلازمة، والذي عمل عبره للتأكيد على حيوية التقاليد الفنية بالفنون الجديدة. غير أن السينما وفي هذه المرحلة كانت قد عرضت ملامحها كفن مستقل في تعبيرها عن مدخلها، ولغتها، وأسلوبها.
أما المرحلة الثالثة من تطور النظرية الغربية والتي يتوقف عندها باندوبولو فترتبط مع حركة بحث السينما كظاهرة ثقافية تعمقت بفضل الدراسات الاجتماعية والسيكولوجية، والأيديولوجية بغرض توظيف السينما في نظام الاتصال الجماهيري من وجهة نظر البنيوية اللغوية، السيميولوجية، والمعلوماتية الثقافية. ففي هذه المرحلة تعمقت وامتدت المنطلقات البحثية والتطويرية للنظرية من مناهج التحليل الجمالي السينمائي والذي اعتنى بمواضيع، مثل: الشكل واللغة والأيديولوجيا والثقافية الجماهيرية.
وقد استهدف باندوبولو كل مرحلة من المراحل الثلاث السابقة باستخدام منهج جمالي فلسفي خاص يتصف بهذه أو تلك من تيارات التفكير النظري، ويلفت إلى أن “الفصل ما بين تلك المراحل، وفي المعنى المحدد لهو مجرد حل إجرائي ربما عمل على تشويش عملية التطور الواقعي والتداخلات التي تقوم في ما بينها، لكنه إجراء ـ من الناحية المنهجية ـ يتماثل مع ضرورات البحوث التحليلية ويلبي الغاية من استعراض خارطة تطور علم الجمال السينمائي الغربي”.
فلسفة الجمال
بعد أن يعطي باندوبولو صورة لتطور المفاهيم الجمالية عن الفوتوغرافيا والسينما يطرح تساؤلين مهمين؛ الأول هو سؤال عن العلاقة بين علم الجمال والنظرية الجمالية؟ أما الثاني فهو سؤال أي معنى يمثله الرباط النظري والتاريخي في نطاق علم جمال الفوتوغرافيا والسينما للتجربة الإبداعية المعاصرة في السينما؟
ويقول إن “نظرية الفن منذ عصر النهضة قد ترافقت مع دراسة مفاهيم الرائع والتذوق، وأصبحت جزءا لا يتجزأ عن علم الجمال. ومنذ نهايات القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن التاسع عشر ونتيجة تكون النظرة التاريخية لتطور الأدب والفن تبدأ نظرية الفن عملية الانفصال في علاقتها بعلم الجمال في المجال المعرفي. فمن جهتها جسدت النظرة التاريخية لتطور الفن حقبة متفردة ومتميزة في تطور الثقافة الفنية التي أضحت متصلة بالشكل النهائي لنظام الأنواع والمصادر والاتجاهات التي عرفت بالفنون الجميلة، وكذلك غدت مرتبطة باكتمال البحوث عن الأشكال الفنية الكلاسيكية التي بدأت منذ عهود الإغريق والنهضة وبدايات القرن العشرين”.
ويضيف باندوبولو إن خبرة الفن الكلاسيكي وعلم الجمال المختص بتلك الخبرة يعطيان فهما لماذا امتزجت نظريتي الفوتوغرافيا والسينما في التقييم الجمالي وفي تلك المراحل المبكرة، وحينما لم يمتلك بعد هذان الفنان تاريخا إبداعيا يماثلهما مع التاريخي الإبداعي الكلاسيكي. إن انصهار علم الجمال ونظرية الإبداع الفوتوغرافي والسينمائي قد تم في صميم تطور الأشكال الجديدة للنشاط الفني، في ذات الوقت الذي قويت فيه تأثيرات نظرية الفنون الجديدة بفعل علم الجمال الكلاسيكي. ويرى باندوبولو أن نظرية الفوتوغرافيا والسينما وقبل كل شيء تنزع إلى إنشاء الحدود الفنية لهما، تلك الحدود التي ميزتها علاقة الفوتوغرافيا منذ البداية بالتقنية، ما حدا بالتحليل الجمالي أن يضع هدفه الأساسي في تصنيفهما ضمن الثقافة الجمالية للمجتمع المعاصر.
ويوضح أن التمييز بين النظرية وعلم جمال الفنون الجميلة تحدده تلك المسائل التي يقومان بمعالجتها. وإذا ما اتحد التحليل النظري الجمالي في قوة امتزاج جماليات الفن الكلاسيكي والنشاط الفني فإن هذا الامتزاج لا يمكن أن يحدث في علم الجمال المعاصر بسبب أن الحدود الجمالية للثقافة الجمالية للمجتمع المعاصر هي نفس حدود النشاط الفني.
إن الفوتوغرافيا والسينما هما شكلان جديدان ـ غير كلاسيكيين للإبداع الفني. فالمعنى الجمالي لهما أشد اتساعا من معناهما الفني، وفي قوة نظرية هذين الفنين لا يمتزج علما جمالهما اللذان يمضيان إلى خارج حدود الفن. والمفهومان يدفعان إلى وضع هذين الفنين كنموذجين معاصرين للثقافة الجمالية للمجتمع المعاصر، ومن هنا يستوجب وضع استنتاج عملي هام للغاية.