الفن التجريدي يلتحم مع الميتافيرس في أعمال اللبنانية روزماري شمعون

لوحات تعكس تعاونا بين حس التكنولوجيا ونبض التعبير الغنائي.
الجمعة 2023/07/28
تقنيات فنية خاصة

تعرض الفنانة اللبنانية روزماري شمعون، وهي متمسكة باستخدام الألوان الزيتية، أسرار أعمالها الفنية الأولى التي تكشف مدى تأثرها بالهندسة ورغبتها الجامحة في محاكاة مفهوم الاندثار، محاولة اكتشاف ذاتها عبر اكتشاف الصلة بين العوالم المتجاورة.

تقدم صالة “جانين ربيز” اللبنانية معرضا للمهندسة والفنانة اللبنانية روزماري شمعون تحت عنوان “أسرار. الأعمال الفنية الأولى”. يضم المعرض مجموعة من اللوحات المشغولة بالألوان الزيتية على قماش وبقياسات مختلفة. افتتح المعرض يوم 26 يوليو الجاري ويستمر حتى الحادي عشر من شهر أغسطس القادم.

دائما، الانطباعات الأولى هي سيدة الموقف. قد تستمر هذه الانطباعات أو تتحول إلى نقيضها، ولكن في كل الأحوال تبقى ذات قيمة أساسية لأن بها عقدت الصلة الأولى مع الأشخاص الذين نصادفهم في حياتنا أو مع اللوحات الفنية التي نراها كما هو الحال اليوم أمام أعمال المهندسة والفنانة اللبنانية روزماري شمعون.

لا أخفي أنني في الوهلة الأولى اعتقدت أنني أقرأ إعلانا عن معرض لفنانة تجريدية من الزمن الجميل، وأن المعرض هو نوع من استعادة لنخبة من أعمالها. لكنني ما لبثت أن علمت أن الفنانة روزماري شمعون هي من مواليد 1995. وأن ما تعرضه لها صالة “جانين ربيز” هو مجموعة من أوائل أعمالها الفنية على قماش. فهي في الأصل مهندسة تلقت شهادتها من جامعة نوتردام لتحصل بعد ذلك على الماجستير من جامعة الفنون بلندن في اختصاص الخيال التطبيقي في المجالات المهنية الإبداعية.

ويُمكن بكل قناعة اعتبار ما تقدمه الفنانة في الصالة من الأعمال التجريدية أعمالا مشغولة بالألوان الزيتية وتشير إلى اهتمام الفنانة بتبني التقنيات الخاصة بفن الرسم بالألوان الزيتية دون غيرها من الألوان. وتحضر العجينة اللونية بوضوح حيث ترقّ وتغلظ. كما يحضر المزج اللوني الذي يعتمد على التدرج وعلى حسّ الفنانة بقدرة المادة الزيتية على محاكاة مفهوم الاندثار والاختفاء دون أن يخسرا أي درجة من القدرة التعبيرية.

◙ التشكيلية روزماري شمعون تهتم بتبني التقنيات الخاصة بفن الرسم بالألوان الزيتية دون غيرها من الألوان
التشكيلية روزماري شمعون تهتم بتبني التقنيات الخاصة بفن الرسم بالألوان الزيتية دون غيرها من الألوان

أما اختيار الفنانة المهندسة للألوان الزيتية دون غيرها من الألوان (لاسيما ألوان الأكريليك) فهو أمر يجدر التوقف عنده والتمعن في حيثياته. نتساءل، على سبيل المثال، لماذا اختارت الفنانة، التي هي في الأصل مهندسة منغمسة في المجال المهني داخل وخارج لبنان وهي من مواليد 1995، الألوان الزيتية “التقليدية” في زمن يهجرها الكثير من الفنانين المخضرمين إلى عالم الأكريليك، وفي حين لا تكترث بها الأكثرية الساحقة من الفنانين الشباب عالميا.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن عددا من المصانع الشهيرة تلقفت هذه الهجرة ومفاعيلها وقامت بتطوير صناعة مادة التيربانتين التي تستخدم كثيرا أثناء العمل على اللوحات الزيتية لتكون منعدمة الرائحة، كما تمّ اختراع مادة يستطيع الفنان أن يستعيض بها عن التيربانتين وزيت الكتان في آن واحد وذلك لأهداف توفيرية من ناحية الكلفة المادية ومن ناحية تقليص المدة التي يحتاجها الفنان لتنفيذ عمله الفني، مع العلم أن فكرة اختصار الوقت في تنفيذ العمل الفني فكرة فيها مغالطات عديدة لسنا بصدد طرحها هنا.

والحقيقة أن اختيار المهندسة الشابة للألوان الزيتية كي تنجز أعمالها اختيار موفق جد إذ اختارت المادة الأكثر تعبيرية وغنى على الإطلاق. استطاعت أن تنغمس في حسية المادة وروحانيتها في آن واحد. وقد قالت الفنانة في البيان الصحفي المرافق للمعرض “انتهيت إلى اكتشاف أن الحياة لا يمكن أن تستقيم دون التحام الروحي بالماديّ. هذا الاكتشاف هو قلب مجموعة أعمال المعرض. توجد صلة خفية سرية بين ما يبدو أنه عوالم شديدة الاختلاف عن بعضها البعض. هذا السر الذي يقيم التوازن بين المرئي واللامرئي أحاول العثور عليه في كثافة العجينة اللونية ورقة ضربات الفرشاة”.

وربما يصعب على غير الضليع في ممارسة الفن إدراك الفارق القاطع بين خصائص الألوان الزيتية والأكريليك. فمثلا كثافة العجينة اللونية الزيتية على قماش اللوحة أو ما يسمى بـ”الإمبوستو” لا يمكن للأكريليك مجاراتها، لا من ناحية التعبير ولا من ناحية حسية الملمس. كما أن تفاعل الألوان مع بعضها البعض حين تتجاور أو تتداخل تشبه بدقتها علاقة الإنسان بإنسان آخر لكثرة التفاصيل “المجهرية” التي تحدث كأنها من تلقاء ذاتها بمباركة حامل الريشة أو أية أداة يمكن الرسم بها حين تكون الألوان زيتية، أي الطيّعة إلى أقصى حد، هي المُستخدمة.

◙ في لوحات روزماري شمعون   لا تتشكل أمام عين الناظر المواطن التجريدية، وإنما التعاون بين التكنولوجيا ونبض التعبير الغنائي
في لوحات روزماري شمعون   لا تتشكل أمام عين الناظر المواطن التجريدية، وإنما التعاون بين التكنولوجيا ونبض التعبير الغنائي

ومعرفة أن المهندسة روزماري شمعون كانت لها تجربة مهمة في العمل على هندسة منصة في “الميتافيرس” تلقي ضوءا ساطعا على أعمالها. إذ يبدأ المُشاهد يستشف المدن الافتراضية الغائمة والمتراكمة والمتداخلة في المشاهد التجريدية التي رسمتها كما تبدأ الطاقة التفاعلية بين تفاصيل المشاهد تظهر وتساهم الألوان الزيتية في قدرتها على تظهير الشفافية في أبعد الدرجات وأعمقها، فإظهار الطبقات التي تتتالى فوق بعضها البعض وتمد جسورا فيما بينها يحيلنا إلى البنيان الافتراضي للميتافيرس الذي يصفه الخبراء بأنه متألف من 7 طبقات تفاعلية أساسية.

في لوحاتها لا تتشكل أمام عين الناظر المواطن التجريدية البحتة، وإنما التعاون بين حس التكنولوجيا ونبض التعبير الغنائي المتمثل في أغنى مادة لونية على الإطلاق: الألوان الزيتية. وهكذا تحول الفنانة الفن التجريدي الذي عرف بريقه الأسطع في بداية القرن العشرين رونقا معاصرا تحاول من خلاله، كما تقول في البيان الصحفي المرافق لمعرضها، أن تكتشف ذاتها عبر اكتشاف الصلة بين العوالم المتجاورة والروح والمادة وليس تجريد العالم الواقعي من مظاهره المُعتادة فحسب.

يُذكر أن الفنانة روزماري شمعون التي تعيش حاليا في وطنها لبنان لاقت اهتماما عالميا لأعمالها وشاركت في مشاريع ثقافية وفنية عالمية عديدة. وبالرغم من صغر سنها لاقت أعمالها رواجا لاسيما في الولايات المتحدة وأستراليا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

14