الفنان ضياء الحموي يُسمعنا أنفاس الكائنات في لوحاته

لا يتردد الفنان السوري ضياء الحموي في استخدام الألوان، ورصد التفاصيل الصغيرة والدقيقة في الطبيعة، ليبعث الحياة في لوحاته، ويضيف إلى الساحة الثقافية نصا لونيا وتشكيليا متفردا يبحث في ثنائية الوجود والعدم، ولا يشبه إلا ذاته ومحيطه.
كل مهتم بالفن التشكيلي العربي المعاصر سيلاحظ أن أغلب الفنانين يقدمون نصوصا بصرية تتحدث عن القلق أو الحروب ونتائجها أو العزلة بما يترتب عليها. وهي أعمال تتفاوت في أهميتها التقنية والفنية على السواء.
كما أن العديد من الأعمال الفنية لا زالت تهدف إلى خلق حالة صدام أو نفور مع الناظر إليها مبنيّة عن قصد مُتعمد من قبل الفنان إما للفت النظر إلى جرأته، أو وقاحته لكسب الشهرة أو تقديم ذاته على أنه فنان فذّ يرسم البشاعة بجمالية معينة، ولهذا النوع من الفن تاريخ طويل جدا.
غير أن وسط هذه الجلبة المتخبطة في وحول الذاتي أو العام ينمو فن عطر بهدوء آثر وثقة لا لُبس فيها فيه من القوة الخالصة الكثير، ومن الرقة ما يؤثر بقوته. وإلى هذا العالم الناجي من التهتك واضمحلال القيم الإنسانية ينتمي الفنان التشكيلي السوري ضياء الحموي.
يواصل الفنان ضياء الحموي منذ عدة أسابيع النشر على صفحة الفايسبوك الخاصة به، بعد أن شارك مؤخرا بأعماله الجديدة في معرض بصالة "غريتيثان"، لوحات نابضة بكل ما تعني الكلمة من معنى وتشي بما وصل إليه الفنان من قدرة خاطفة للأنفاس على التعبير عن العالم الذي سار إليه منذ سنوات عديدة وهو عالم الطبيعة ليس كحاضن لمشاهد متضمنة عناصر طبيعية كالأشجار والنباتات والأزهار والعصافير والسماء والغيوم وغيرها، بل كعالم يقف أمام ناظريه كباب مُرتجّ ومفتوح إلى عالم المعاني الغيبية.

أبواب معظم الأسرار لازالت موصدة خلف ذلك الباب، ولكن الفنان يلمح إليها وإلى وجودها في لوحاته. أما تخفي تلك الأسرار وتمنعها عنه لمجرد أنه بشريّ على قيد الحياة وإن ملك نظرا ثاقبا هو، ومن دون أي شك، ما يشعل ويغذي مخيلة الفنان السوري وشغفه المتواصل في الرسم ونصب فخوخ "عشقية" إذا صحّ التعبير، لأزهار شقائق النعمان بشكل خاص لعلها تخبره عن معنى الخلود الكامن في هشاشة بتلاتها.
ونذكر هنا على وجه التحديد لوحة ظهرت فيها تلك الزهرة ببلاغة قوتها المتجسدة بهشاشة شفافة مُحملة بشيفرات الوجود غير القابلة للتفكيك إلى أجل مُسمى. تظهر هذه الزهرة في هذه اللوحة مبيحة للفنان أشد التقرب منها حدّ أنه أرفق لوحته على صفحة الفيسبوك بهذه الكلمات "رحلة إلى الجنة".
ويظهر حقل شقائق النعمان في لوحة أخرى في مشهدية متوسطة هي بكل تأكيد سبقت، على الأقل ذهنيا، تنفيذ اللوحة المذكورة آنفا. وأرفق لوحته هذه بهذه الكلمات "مرحلة متوسطة" أما ما قصده الفنان بالوسطية فهو بشكل عفوي أو غير عفوي لا ينتمي إلى التركيب الهندسي للبصريات وفق الأبعاد الثلاثة أو وفق وسع أو ضيق حقل النظر الذي اعتمده الفنان ليرسم لوحته، بل ينتمي إلى تظهير مستوى البعد الروحي من المشهد الذي وصل إليه الفنان قبل أن يغوص في متاهة حمرة أضاعت معنى الوقت ومعنى المكان على السواء.
تمرّ أيام على رؤيتنا للوحة على صفحة الفايسبوك الخاصة به وإذ بنا بعد أيام قليلة نرى لوحة أخرى تجعلنا في قلب الدهشة والتساؤل حول مدى تقرب الفنان من معنى المشاهد الطبيعية التي يرسمها والتي كما ذكرنا سابقا ليست مجرد مشاهد طبيعية، بل مساحات غير معنية لا بالزمان ولا بالمكان ومحملة بإشارات ورموز وإيحاءات تؤدي إلى ما هو أبعد من المشهد الخارجي وينتمي إلى عالم الغيبيات التي هي خلافا للكثير مما قُدم فنيا للمُشاهد ليس فيها صمت حزين أو هدوء بارد أو راحة هي نتيجة لانعدام الحركة.
وإن كانت اللوحات الفنية الموصوفة بالصوفية أو تطرأ إلى عوالم الغيب بشكل أو بآخر تتميز بأكثريتها الساحقة بأن فيها الكثير من الاختزال في الألوان فلوحات الفنان هي احتفال لونيّ أقصى بالغيب وحضوره في عزّ عتمة الأيام التي نعيشها. ليس هو بملجأ نهرع إليه بقدر ما هو حالة فياضة كنافورة ماء قدرية مكتوب عليها أن تغسل أوجاعنا الأرضية حين يحين الوقت المناسب.
يقيم البنفسجي / الفضي ساحرا فتاكا، ولكن حكيما في لوحات ضياء الحموي ونذكر هنا لوحة أرفقها الفنان بهذه الكلمات "قال لي في التيه تجد طريقك"، ويرقص الذهبي في لوحة "رحلة إلى الجنة" وهي واحدة من عدة لوحات تحمل ذات العنوان. ويزغرد الأخضر على صفحة ماء كونيّ ونذكر لوحات أرفقها بهذه الكلمات "أغاني القصب" و"كورقة نيلوفر تهتز روحي مع كل موجة تائهة".
ويتثاءب الأبيض ويتلاشى في مواضع من لوحاته كغيم سكريّ جاء من عالم آخر في لوحات الفنان. ويدمّع الأزرق وتتوسع أحداقه ليكون شاملا كما هو كل شعور بغلبة الحق على الباطل.
ويغيب أو شبه يغيب الوردي لأنه النسخة المخففة من اللون الأحمر في حين أن كل ما في لوحات الفنان هو إما في حده الأقصى أو يسعى لأن يكون كذلك.
◙ لوحات الفنان ضياء الحموي نابضة وتشي بما وصل إليه الفنان من قدرة خاطفة للأنفاس على التعبير عن العالم
ويلقي البرتقالي بمزاحه العفوي ليباعد ويخفف من ارتجاج الخطوط التي تتلاحم وتتجاور في عدد كبير من لوحاته شبه التجريدية، فيخفت ويشتد في لوحات هي لجذوع أشجار، ولكنها في حقيقتها أقرب إلى أن تكون ترجمة بصرية لإيقاع الوجود ولنبض العالم المتحول الذي سينجو من تحولاته في نهاية المطاف، مطاف الإنسان الدامي على هذه الأرض.
من تلك اللوحات نذكر ما نشره الفنان على صفحته “أناديك قبل الكلام أطير بخصرك قبل وصولي إليك (محمود درويش)" و"جذع سنديانة أم خصرها ليس مهما. لكن المهم أن تمتلك فضول طفل وشغف عاشق" و"شمس الصباح تشرق أحيانا من خصرها" و"شمس الصباح تشرق دائما من خصرها".
والناظر إلى لوحات الفنان الأخيرة رغم أن القليل منها عاد منذ بضعة أيام، وإن بتعبيرية أكبر، إلى استخدام البنية الهندسية القائمة على الخطوط التي بدت في لوحات سابقة وكأنها دراسات في التركيب البصري أو تمهيد مشهديّ يريد أن يتحرر من حدوده المرسومة، سيدرك أن الفنان السوري وصل إلى درجة كبيرة من الصفاء تجاه عالمه الداخلي الذي ينعكس على صفحته عالم آخر هو أبهى ولكنه ليس في المتناول طوال ما نحن في هيئتنا البشرية / الأرضية / المحدودة.
يذكر أنّ الفنان التشكيلي ضياء الحموي ولد في حلب في عام 1963 ودرس الفنّ دراسة خاصّة، وأعماله مقتناة من وزارة الثقافة السورية وضمن مجموعات خاصّة، كما شارك في عدد من المعارض المشتركة منها معرض مع الفنان نهاد ويشو في صالة المتحف الوطني في حلب في عام 1985، ومعرض الفنانين الستة في صالة "بلاد الشام" في حلب في عام 1995، ومعارض جماعية داخل سوريا وخارجها من 1996 إلى 2009.