الفنان اللبناني محمد شرف يرسم خريفا ناجيا من تهدج الزمن المعاصر

نظر الفنان التشكيلي محمد شرف إلى تغيّر الفصول فرأى في الخريف خير معبّر عن الضبابية في الحياة والأزمات التي تعصف ببلده لبنان، ومنه وجدت لوحاته التي تصور لنا “نوستالجيا الخريف” من زاوية أكثر عمقا، تتجاوز فكرة التعامل مع الفصول والتغيّرات الطبيعية إلى إسقاطها على الحياة.
بعد غياب عن العرض الفني لمدة تقارب سبع سنوات مع استمرار كثيف في العمل الفني والكتابة الصحافية الفنية عاد الفنان التشكيلي محمد شرف إلى الساحة الفنية بمعرض تحت عنوان “نوستالجيا الخريف” مقدما أعماله في عزّ فصل الخريف في صالة “إكزود”.
وكل من يعرف الفنان يعلم بأن أسباب هذا الغياب هي الأزمات المتتالية التي تعرض لها لبنان منذ قيام الانتفاضة اللبنانية وانتشار وباء كورونا المستجدّ وصولا إلى الانهيار الاقتصادي وانفجار الرابع من أغسطس الذي ألحق بالصالة الفنية التي كان ينوي العرض فيها الكثير من الأضرار.
خرج الفنان التشكيلي اللبناني محمد شرف عن صمته عبر ما قدمته صالة “إكزود” اللبنانية في بيروت، في عرض فردي بعنوان “نوستالجيا الخريف” الذي استمر حتى التاسع من نوفمبر الحالي. ومن المعروف عن هذه الصالة انجذابها إلى تقديم نصوص فنية معظمها خارج تهدج الزمن المعاصر وفنونه التي ينجرف الكثير منها إلى حالة تلف وقلق سببهما محيط الفنان الرازح تحت شتى
أنواع التأثيرات السلبية كالحروب وأزمات الهوية والأزمات الأخلاقية حدّ أن يصبح أحيانا، أي الفنان، جزءا مؤسسا لها، أكثر مما سببه إصغاؤه إلى أعماق وجدانه الناجي من حرائق ذلك المحيط.
◙ كل أعمال الفنان محمد شرف من الخيال أو من الذاكرة إلا عملا واحدا وهو مشاهد مُستقاة من مشاهد طبيعية خريفية
والفنان التشكيلي اللبناني محمد شرف هو من المجموعة الثانية من الفنانين. فنان استطاع حماية وجدانه قدر المُستطاع من الفظاعة اليومية واستمر قادرا على الإصغاء إلى إنسانيته والانتصار لها رغم شدائد العالم المحيط، بداية بمدينته بعلبك التي أصابها كما أصاب جميع المدن اللبنانية تصدع عميق في بنيانها المعيشي والوجداني.
بدا اليوم محمد شرف في معرضه “نوستالجيا الخريف” كما في معارضه السابقة ثائرا على عالم خارج الإنسانية، ولكن من خلال شخصيته المترويّة والمُتمرّسة على الثبات في زمن الأعاصير ومن منطق من لم ينكفئ أن يرى الإنسان “إنسانا” حمّالا نبيلا لمّا نجا من العالم وانعكاساته المُضيئة.
بالألوان المائية قدم الفنان التشكيلي اللبناني محمد شرف ثلاثين لوحة ذات أحجام صغيرة ومتوسطة. وأمكن تقسيم المعرض إلى مجموعتين. المجموعة الأولى هي صغيرة الأحجام، رسم فيها الفنان طبيعة خريفية غلبها سكون خفّت فيه وتيرة الألوان. وعلى الرغم من استخدام الفنان لمراوحة قليلة من الألوان لم تقع أعماله في الرتابة. وبدت كل واحدة من اللوحات تتحدث عن مزاج انساب حتما من جوّ لوحة أخرى، ولكن مع إيغال أكثر ومُختلف في الإيحاء. إيحاء غلبته شعرية واضحة شبّعت المشاهد الطبيعية بسحر هادئ.
أما المجموعة الثانية فهي تكاد تبدو على هامش المعرض. رسم فيها الفنان طبيعة صامتة أخذتنا إلى عالم اللوحات التي حضرت فيها باقة أزهار وفاكهة ناضجة موضوعة على طاولة خشبية بسيطة تعبق بأجواء الغُرف التي تسكنها طمأنينة خارج ضجيج المدن اللاهثة نحو فنائها.
في معارضه السابقة حضر الإنسان بقوة في لوحاته، ولكنه كان إنسانا احتفظ بإنسانيته رغم الشقاء. أما اليوم فمحمد شرف قدم معرضا بالغ الإنسانية لناحية تعاطيه مع الأشياء البسيطة ومجاورته للطبيعة رغم انعدام وجود لبشري واحد في لوحاته وغياب أيّ تفصيل يشير إليه.
ومما لا شك فيه، أن المجموعة الأولى هي الأساسية. ليس لأن المعرض يحمل عنوانا يشير إليها بشكل مباشر فقط، وليس لأنها الأكثر عددا بل لأنها تنشر سحرها لتطال اللوحات الأخرى المتضمنة طبيعة صامتة، فتبدو للناظر إلى لوحات الطبيعة الصامتة أنها غرف في دواخل بيوت حققت انفتاحها على جغرافيا المشاهد الطبيعية وعاطفيتها التي حلّ عليها فصل الخريف.
وعندما نقول “مشاهد مفتوحة” نصل إلى لبّ ما يجعل تلك الأعمال متميزة رغم أنها تتناول موضوع تقليديا وكلاسيكيا جدا وهو فصل الخريف وأجواء حلوله في الطبيعة. وما يجعل تلك المشاهد متميزة هي أنها تبدو بمعظمها وكأن الفنان التقط هدوءها ورطوبتها وروائح تربتها (أكثر من كونه التقط أو بيّن معالمها الجغرافية) من داخل سيارة متحركة.
أما ما يعطي زائر المعرض هذا الانطباع هو أن الناظر إليها سيشعر بأنها قد تخطّت نظره إلى لحظة رؤيتها. فعند محاولة استيعاب هذه “الظاهرة” في معظم لوحاته ذات الأفق المفتوح على الغياب سيعثر المشاهد على مسحات لونية أفقية وطويلة نسبيا، بالنسبة إلى حجم اللوحات، تحرّك المشاهد المرسومة وتطلق حركتها نحو خارج إطار اللوحة إلى ما يمكن وضعه في خانة “ظهر ثم مضى”.
◙ الضبابية التي تتميز بها المشاهد الطبيعية التي عرفها الفنان في روسيا لاسيما في فصل الخريف تأتي لتعطي للمشهد هشاشة
وتأتي الضبابية التي تتميز بها المشاهد الطبيعية التي عرفها الفنان في روسيا لاسيما في فصل الخريف لتعطي للمشهد هشاشة تندثر فيها معالم المشاهد مع الضباب وليس بعد اندثاره.
يخبرنا الفنان في هذا السياق أن كل أعماله في الصالة هي من الخيال أو من الذاكرة إلا عملا واحدا وهو مشاهد مُستقاة شعوريا أو لا شعوريا من مشاهد طبيعية/خريفية رآها في بلدان سبق أن عاش فيها إضافة إلى لبنان وهي روسيا وإيطاليا وفرنسا.
من منظار آخر يهم أن نذكّر بأن متابع الفنان التشكيلي محمد شرف على الصفحة الخاصة به على فيسبوك سيكتشف وخاصة منذ أكثر من سنتين شغفه الكبير في التقاط صور فوتوغرافية في حديقة “رأس العين” الموجودة في مدينته بعلبك البقاعية.
صور يغيب فيها الإنسان المعاصر حتى من آثار قدميه أو من أي غرض قد يكون نسيه على مقعد ما في الحديقة. يغيب الإنسان لتحضر الإنسانية. صور فنية بكل معنى الكلمة تحيلنا اليوم إلى معرضه حيث برز ولع الفنان الواضح بتصوير العناصر الطبيعية في الفصول الأربعة وهي في سكون سحري يريد أن يظل كذلك دون احتكاك مع أيّ بشري.
يُذكر أن محمد شرف من مواليد عام 1955، متخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة مدينة سان بطرسبورغ الروسية، أنهى دراسته عام 1989، وحصل على الدكتوراه في نظريات الفن المعماري وتاريخه، عاش لعشر سنوات في فرنسا وإيطاليا، وأجرى دراسات معمقة في الفن الجداري، كما مارس الرسم الجداري، وله العديد من المعارض الفردية في لبنان وروسيا وفرنسا وإيطاليا.