الفنان اللبناني رالف حاج يعبر فوق بركان بيروت الخامد

إعادة تشكيل لـ"ثلاث حروب" رسمت تاريخ بيروت المعاصر.
الجمعة 2023/08/25
حلم أيقظته الحروب

عاد الفنان رالف حاج إلى الحروب الثلاث التي عاشها لبنان منذ مطلع القرن الماضي وصولا إلى الزمن الراهن، ليعيد تصوير انفجاراتها ودمويتها على أسطح لوحاته لتروي للمتقبل ذكريات مآس موجعة.

يقيم “بيت بيروت” الكائن في منطقة السوديكو التي كانت تعتبر خط نار لاهب سقط فيه المئات من الضحايا قنصا أو تحت القصف خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، يقيم معرضا للفنان اللبناني متعدد الوسائط رالف حاج تحت عنوان “تاريخ ثلاث حروب” ويستمر المعرض حتى آخر شهر أغسطس الحالي.

ما من مرة كتبت فيها عن حدث فني في “بيت بيروت”، البيت الأصفر الشاحب الذي شيده يوسف أفتيموس سنة 1923، إلا وكانت الكتابة مقرونة بذكريات شخصية مرة تلحّ عليّ ألا أكتب إلا من خلال نظرة يشوبها الكلل من كل حلم أجهضته الحرب.

على كل الأحوال لم يكن أي معرض أقيم في هذا المكان حتى الآن إلا منسجما مع تاريخ لبناني بائس يستمر في فصول متجددة، مما يضاعف حتما من هول ما يعرضه وإن جاء ملوحًا بألوان الغروب العذبة التي تحاول أن تلطّف من معنى الغياب والموت لتخفق في ذلك كل مرة.

أعمال تكثف الواقع بشكل فظيع استعان الفنان لإنجازها بتقنية الفوتوشوب وفن الديجيتال والفن اليدوي والتصوير الفوتوغرافي
أعمال تكثف الواقع بشكل فظيع استعان الفنان لإنجازها بتقنية الفوتوشوب وفن الديجيتال والفن اليدوي والتصوير الفوتوغرافي

المعرض الذي يقيمه “بيت بيروت” تحت عنوان “ثلاث حروب” اليوم، هو معرض غير عادي وهو خلافا لما سبقه يتميز بأنه محاولة ناجحة في ضم تاريخ بيروت الحديث والمعاصر في قبضة دامية واحدة. ثلاث حروب أو عشر، لا يهم حين تكون السيرة هي سيرة لحرب واحدة تتواصل بمشاهد وآثار مختلفة.

ماذا يقصد الفنان رالف حاج بالحروب الثلاث؟ ماذا يقصد بالحرب ذات الوجهات الثلاث التي تفتقر إلى وجهة رابعة هي على الأرجح وجهة للخلاص من قدرها؟

لعل أصوب ما يقوم به الفنان في معرضه هذا هو أنه من ناحية لا يلقي اللوم على أحد في نشوء هذه الحروب، بل يلقي اللوم على الكلّ باعتبارهم وسائط “رخيصة” وقبيحة صنع بعضها واستخدم كلها، مسار التاريخ العام والجغرافيا المتهدجة التي حكمت لبنان منذ لحظة نشوئه.

ومن ناحية أخرى يحاول المعرض من خلال شخص الفنان وإبداعه أن يسرد بيروت الحديثة والمعاصرة في مكان واحد مُثقل بذاكرته وشاهد على جانب هائل ومظلم هو جزء أساسي من هوية المدينة ولو حاول الكثيرون من فنانين أو غيرهم إجراء عمليات تجميلية غير موفقة لتبديل ما يطفو على ملامح وجهها لعلها تصبح قلبا وقالبا لمّاحة بشوشة، جميلة، ومضيئة. محاولات متكررة لتجميل كل ما حققته هو إضافة تشوه على تشويه ضاحك كما في مشاهد الرعب الساخرة في أفلام الخيال العملي.

يقول الفنان عن معرضه هذا “نقطة الانطلاق هي مجموعة صور لبيتي المهدم، التقطتها في اليوم التالي لانفجار الرابع من أغسطس 2020 في مرفأ بيروت. تشكلت خارطة ذهنية، فربطت هذه الأشياء المصورة بسياقها لإعادة بناء الأحداث التي أدت إلى هذه الكارثة.. الحروب الثلاث هي الحرب العالمية الأولى والمجاعة (1915 – 1918) من خلال ذكريات جدتي، وما اختبرته خلال الحرب الأهليّة (1975 – 1990)، مرورا بانفجار مرفأ بيروت (2020)، الذي يقام المعرض هذا في ذكراه الثالثة”.

عمل فني يحاكي الحقيقة
عمل فني يحاكي الحقيقة

أما منسّقة المعرض ميّ الحاج فأوضحت أنها تتعاون مع الفنان منذ أكثر من أربع سنوات وتعلم جيدا أنه “يفكر بالعمل الفني كملحن، فالفرق بين الملحن والرسام في العصر الكلاسيكي هو أنّ الرسام كان مقيّدا بفرشاة الرسم والطلاء والقماش، ما يعني أن أي خطأ، مهما كان بسيطا، من شأنه أن يعيد العملية من البداية، في حين أنّ الملحن يستطيع مسح وإضافة أي نوتة بأقل مجهود، ما يجعل عملية إنشاء العمل الفني أكثر كفاءة وسرعة، وهذا هو سبب اختيار الفنان للوسائط الرقميّة، ليستطيع إنشاء صور ويتمكن من المسح والتكرار، وهو ما يمنحه الكثير من الحرية”.

وأضافت قائلة “بالرغم من استخدامه للوسائط الرقميّة، فإن رالف حاج لا يزال متأثرا بعصر النهضة والباروك، فمفهوم اللوحة الرقميّة غالبا هو غريب أو غير مقبول، لأن اللوحة بالنسبة للأكثريّة عبارة عن ألوان زيتيّة على قماش مشدود، لكن الأعمال الفنية الرقميّة تبقى لوحات لأن الفنان استوفى فيها عناصر اللوحة الكلاسيكية كالمنظور والعمق والإيقاع، بل ويأخذنا إلى عوالم داخلية، والمميز أيضًا في حاج أنه ينتج أعمالاً رقمية، ولكن في الوقت نفسه يحافظ على تاريخ طويل من تقنيات الرسم، فهو ببساطة يكرر ذلك لكن عبر الكمبيوتر”.

"ثلاث حروب" هو معرض غير عادي ومحاولة ناجحة في ضم تاريخ بيروت الحديث والمعاصر في قبضة دامية واحدة

في المعرض أعمال تكثف الواقع بشكل فظيع استعان الفنان لإنجازها بتقنية الفوتوشوب وفن الديجيتال والفن اليدوي والتصوير الفوتوغرافي الذي أتاح له دمج الأزمنة ورص المساحات وإضافة الطبقات المتهالكة، الواحدة فوق الأخرى، والتي نبتت من تحتها أمام المُشاهد وجوه غائمة وعيون مُحدقة وأهوال، فلشدة واقعيتها الجارحة أصبحت أغرب من الغرائبية.

قدم رالف حاج في لوحاته المعروضة أيضا كتابه الديجيتالي الذي وضعه للتصفح في صالة المعرض والذي يعمل على مستويين. فهو من ناحية قدم سردية تحترم التراتبية الزمنية للحروب الثلاث ومن ناحية ثانية دمجها في كُلّ واحد، وفي هذه الناحية تحديدا ظهرت قدرته الفنية العالية على التعبير عن معنى الشر والخوف والموت كحالات لا تأبه بزمن ولا بمكان وتتصل اتصالا مباشرا بما يعني أن يكون إنسانا حمّالا للأذى لذاته وللآخرين.

في المعرض لوحات رقمية كبيرة الحجم اتسعت لمجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية غير الواضحة، استطاع الفنان دمجها مستخدما تقنية الفوتوشوب وعدلّ من تموجاتها وبريقها اللوني في نواح محددة فبدت كأمواج تنبض بصمت قاتل يشي بما تحمله من مآس وذكريات موجعة، إما لإنها ذكريات حلوة عبرت ولن تعود، وإما لأنها كوابيس لا تزال توجّ من تحت المُسطحات اللونية التي صممها لتكون مُلتبسة وشفافة ومتداخلة.

إلى جانب التصميم المسبق، الذي تميزت به مجمل الأعمال والتي قد تذكر البعض منا ببيانات الزلازل الغرافيكية وتلك المُشيرة إلى تحرك وسبات البراكين، يحضر الارتجال أيضا، بل لنقل يحضر دور اللا وعي الذي أطلق الفنان يده الطولى في فضاء الأعمال. لذلك يبقى منجزه الفني وكأنه مفتوح وقابل للتبدل ولا صيغة نهائية له تماما كما هي صيغة العيش في بلد قوامه التوتّر الدائم.

14