الفنان اللبناني جبران طرزي معرض مؤجل ومشرقية تدوم

نصوص بصرية صوفية تؤرخ لأربعة عقود من البحث التصاعدي.
الأربعاء 2022/02/09
فنان اختار طريق الباطن الشائك في محاولة سبر أغواره

رحل الفنان اللبناني جبران طرزي عن عالمنا تاركا خلفه إرثا فنيا ذا قيمة وأهمية، لكنّ رحيله لم يكن النهاية فعائلته تسعى لإحياء ذكراه عبر معرض استعادي حالت جائحة كورونا دون تنظيمه، وسيكون نموذجا مصغرا لأربعة عقود قضاها الفنان الراحل بين الرسم والكتابة وحتى تدوين الملاحظات التشكيلية.

محظوظ هو الفنان المُحاط بعائلة أو أصدقاء مقربين جعلوا من حياته على هذه الأرض الهشة استمرارية وإرثا لمن اعتبر.

هذا هو الحال تماما مع عائلة الفنان جبران طرزي المتمثلة خاصة بزوجته منى وابنه مارك اللذين كانا يستعدان لتحضير معرض استعادي كبير بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته (2010) غير أن تفشي وباء كوفيد – 19 حال دون ذلك. وفي حديث مع العائلة استطعنا معرفة أجواء تلك التحضيرات التي لعلها تأجلت ولم تلغ.

لغة بصرية مشفّرة

جبران طرزي ولد في الشام وترعرع في المغرب وبيروت وهو مسيحي اندمج في عالم النحت وعوالم الزخارف الإسلامية

يحار المرء أمام شخصية الفنان اللبناني جبران طرزي، حتى بعد مرور أكثر من 11 سنة على تبديله لعنوان سكنه، من الأرض الفانية إلى سماء الخلود، إن كان من الصواب اعتباره فنانا تشكيليا قام بابتكار لغة بصرية – مشرقية ومُشفّرة حاول التقرّب عبرها مما لا يراه ويعلم بوجوده؟ أو من الأفضل أن نراه فنانا تجريديا اختار طريق الباطن الشائك في محاولة سبر أغواره مزدريا  في سعيه هذا كل ما هو ظاهر – عابر لا يعوّل عليه؟ أم  من الأحسن اعتباره حرفيا شغوفا تُفصح عن براعته “صناديقه” لا بل خزائنه بكل ما تحمل هذه الكلمة من غنى، والمشغولة بتقاسيم ومقامات بصرية اشتهر بها لاسيما المستطيلات التي تتداخل فيها مربعات وتتحاور في تقلباتها وتقابلها من صندوق إلى آخر؟

ونذكر إضافة إلى تلك الصناديق المرايا التي أحاطت بمستطيلاته كي تفتح النظر والبصر أكثر مما تحجر ما أطرته، إذ هي في حدّ ذاتها انشطارات لعالم ظاهر اعتدنا على رؤيته ولا يريدنا الفنان ولا هو أراد التوقف عنده. ولأجل ذلك تحديدا نتساءل هل يمكن اعتباره باحثا صوفيا اختار طريق الفن بحثا عن هوية ذاتية؟

في هذا السياق يجدر ذكر أن الفنان ولد في الشام وترعرع في المغرب وبيروت وهو مسيحي انغمس في عالم النحت وعوالم الزخارف الإسلامية انغماس والده وأجداده الذين اشتهروا في المغرب وبيروت وفلسطين وفي الشام وكانوا أسياد تصميم وتنفيذ الأثاث المشرقي.

ولعل أهمية الفنان تكمن في أنه بالرغم من كونه قادما من عائلة عريقة في التصاميم والصناعات الشرقية، فإن أهميته وتفرّده في هذا العصر بشكل خاص يكمنان في مكان آخر، إذ استطاع أن يرمم الشرخ الذي أقامه الفن الغربي بداية بفن النهضة الإيطالية ما بين العمل الفني والعمل الحرفي.

ومن المعروف أن زمن النهضة الأوروبية أسس ورسخ معيار الجدارة الفنية بناء على مدى قدرة العمل الفني على تجسيد العالم الواقعي وفق الأبعاد الثلاثة وبالتوافق مع ما تراه العين، وكل ما هو دون ذلك اعتبر “دونيّا” وتزيينيّا وحرفيّا.

بعيدا عن هذه المعايير الفنية وجد الفن المشرقي والفن الإسلامي بشكل خاص صدى عميقا في عقل وقلب الفنان جبران طرزي لأنه لا يعترف كليا بما تراه العين وجاء غناه وتميزه بالقدرة على التجسيد البصري للمُطلق وللطبيعة من خلال انخراط عميق في علم الهندسة والفيزياء وعلم الفلك.

وتكمن المفارقة في أن الفن الغربي تأثر لاحقا بهذا النمط من الرؤية والتنفيذ، وظهر ذلك خاصة من خلال ممارسة الفن التجريدي، ومازال يلاقي هذا النمط أصداءه اليوم في الفن المفاهيمي، لا بل ظهر هذا التأثر في فكر أحد أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهو ديكارت الذي قال يوما جملته الشهيرة “هو العقل الذي يرى وليس العينين”، معلنا بداية عصر التنوير الجديد، عصر سرد فصولا منه الفنان جبران طرزي من خلال دراسته للوحدات الهندسية الأكثر بساطة وتعقيدا والتي تتشكل منها الزخارف المنتمية إلى التجريد الهندسي الذي اشتهر به الفن الإسلامي بشكل خاص.

 صحيح أن الفنان واكب لوحاته أو أسس لها انطلاقا من دراساته وأفكاره الخاصة التي دونها على قصاصات الورق أو داخل دفاتر احتفظ بها داخل مرسمه لتظهر لاحقا في معرض استعادي له في صالة “صالح بركات الفنية”. غير أنه في آخر خمس عشرة سنة من حياته، وحسب قول ابنه مارك طرزي، انغمس في وحدة تقارب الصوفية في مسار بحث ذاتي شديد الحميمية عن المعاني المحتملة والإحالات الصوفية والفلسفية والهندسية التي أخذه إليها البناء الزخرفي المشرقي الإسلامي، لاسيما ذلك المعتمد على هيئة المربع والمستطيل وتوليفاتهما التي لا حدود لها. ويضيف الابن أنه منذ ذلك الحنين أصبح من الصعب الدخول إلى عالم والده الفني وإقناعه بتقديم أو بيع ما أنتجه فنيا.

سيرة قدرية

وحدات هندسية بسيطة ومعقدة
وحدات هندسية بسيطة ومعقدة

ومن خلال المربع والمستطيل أسهب الفنان في التعبير عن فكرة التناقض والتوافق والصمت والصخب والفراغ والامتلاء، والضوء والعتمة، والنافر والمقعر، في أشكال جمالية لا تنضب ولا يملّ منها الفنان، أشكال تتطابق مع فكر ابن الهيثم الذي اعتبر أن “الصورة المرئية” هي ليست الصورة الذهنية التي تلدها المخيلة ولا ما ينجم عنها، وهي ليست مجرد تطابق مباشر مع المشهد الخارجي – السطحي الذي تراه العين البشرية.

كتابان سبق أن صدرا عن الفنان جبران طرزي وكانا زاخرين بسيرته الذاتية، لاسيما كتابه الثاني الذي جاء بعنوان “جبران طرزي: الفصول الاثنا عشر”. وحملت الفصول هذه العناوين “بلا عنوان”، وموسم “السقوف”، وموسم “القايم نايم”، وموسم “الشرق”، وموسم “الأرابيسك”، وموسم “الخوارزميات”، والموسم “اللبناني” وموسم “معصرة الزيتون”، وموسم “البحر المربع”، وموسم “الصناديق والمرايا”، وموسم “الباو هاوس” وأخيرا موسم “التجريد الميتافيزيقي”.

وسيشعر كل من اطلع على هذا الكتاب، وحتى قبل التمعن فيه، بحضور بصري لسيرة قدرية اختصرت حياة الفنان التي افتتحت مواسمها بعضها البعض كما انفتحت مربعات لوحاته ومستطيلاتها على بعضها البعض لتذكرنا بالقصص السحرية من كتاب “ألف ليلة وليلة” والتي بدورها أدى بعضها إلى بعضها الآخر وذابت أطرافها لأنها بكل بساطة كانت بذورا لبدايات جديدة أكثر منها نهايات.

ووفق قول ابن الفنان مارك طرزي فإن معرضا ضخما كان سيتم افتتاحه سنة 2020 في ذكرى مرور 10 سنوات على وفاته. وكان العمل جاريا لأجل ذلك بالتعاون مع متحف قطر وصديق العائلة أرنو بيار العراب الفني الذي دعم الفنان وساهم في إطلاقه في معرض رفيع المستوى في باريس سنة 2016 ومساهمة إحدى الشخصيات الثقافية المرموقة في الرباط، وأيضا بالتعاون مع صالة صالح بركات البيروتية.

الفنان في آخر خمس عشرة سنة من حياته انغمس في وحدة تقارب الخلوة الصوفية في مسار بحث ذاتي شديد الحميمية

ويُذكر أن الصالة المذكورة ومن خلال معرض نظمته للفنان سنة 2017 تمكنت من عرض ما يقارب أربعين عاما من العمل الفني الذي بدأ بالصناديق الخشبية التراثية المزخرفة والمطعمة بالألوان الطبيعية والمنمنمات المعدنية، مرورا بالرسوم وإطارات المرايا وكتابات الفنان وملاحظاته ولوحاته التشكيلية التي شهدت تبلور تشكيلات “مربعه” في تشابك مع نظرياته الفنية والفلسفية والروحية، غير أن المعرض لم تتم إقامته بسبب تفشي الوباء.

وفي نوع من التعويض الجزئي عن تأجيل ذلك المعرض الذي لم ير النور ربما من الجدير قوله إن أكثر ما يؤثر في لوحات الفنان ولم أذكره في مقال كتبته عن الفنان منذ سنوات عديدة، لأنه لم يكن واضحا ومكتملا كما هو واضح لدي اليوم، أن الفنان قد قدم من خلال بحث بصري تصاعدي دام أربعين عاما نصوصا صوفية متنوعة وغير متناقضة ومبنية على كاهل شكلين اثنين وهما “القايم والنايم” ليطرح عبرهما مساءلة صوفية المنحى، ليس فقط عما تعني الهوية الفردية التي حافظت على تميزها رغم أنها صنيعة ثقافات عدة، ولكن أيضا عبر إلباسه تلك التساؤلات لباس المحاولات التشكيلية التجريدية علّها تقيم وصالا مع أصل الخلق والوحدانية والصفاء النوراني الذي يبث ضوءه من داخل الأشكال.

في العودة بشكل خاص إلى لوحاته وإلى “مراياه” أرى فيها اليوم النسخة الروحية الصوفية للغة الديجيتالية المبنية على رقمين لا ثالث لهما وهما رقم واحد ورقم اثنين. وفي حين تبدو الثانية لغة العالم الجديد الذي تمت تسميته بـ”الميتا فيرس” حيث يصبح “الإنساني” أكثر فأكثر رهن ما تبرمجه وتترجمه “الآلة” وأربابها الحصريون سالبة بذلك الإنسان من إنسانيته، يلقي نص جبران طرزي المنغمس بروحانيته ونفحاته المشرقية دفأه بعيدا في ما تبقى من إنسانيتنا ليس كنوع من الحنين أو الرثاء لما كان ولكن كبنيان، هو بدوره، “أثيري” ويعيش احتمالاته في الثنائية لكنه ينبعث مستنيرا بجوهر واحد وبكلمة واحدة هي الأصل. كلمة تمهل ولا تهمل.

14