الفنان العراقي قيس السندي يتخطى بالجرأة عتبة المراوغة

قيس السندي فنان تشكيلي عراقي يواظب على نشر أعماله الفنية على صفحته الفيسبوكية كما الكثير من الفنانين التشكيليين، ولاسيما خلال أزمة انتشار وباء كوفيد – 19، وقد نشر مؤخرا عددا من لوحاته اللافتة، والتي محورها الإنسان وهمومه المعاصرة.
نشر الفنان التشكيلي العراقي قيس السندي، تباعا، على صفحته الفيسبوكية مجموعة لوحات لا تخرج عن نمط فنه المُتميز بقوة التعبير وجرأة التنفيذ. لوحات يبدو فيها وكأنه ضاق ذرعا بالمعاني المفتوحة وأراد أن تكون لوحاته توصيفية دقيقة تشير إلى موقع الجرح المثير للاشمئزاز، لأنه جرح هندسه أربابه وجيّشوا في خدمته بشرا فاحت منهم ومن أسيادهم روائح الفساد المُشرعن والمُبرر له حتما في عُرف مهندسيه ومروّجيه.
على الأرجح أن الكثير من متذوّقي الفن التشكيلي يترقبون اليوم رؤية المزيد من لوحات الفنان العراقي التي تشير مباشرة إلى الفساد وتقضّ مضاجعه، لكن دون أن تقع في الإسفاف البصري والفكري. لوحاته الحالية -أكثر من لوحاته السابقة- تشكّل نوعا من نكء تطهيري للجراح المتنوعة التي راكمتها الشعوب العربية لتصبح جزءا من هويتها الوجودية.
الفنان شاركنا حتى الآن بأربع لوحات جديدة على صفحته الفيسبوكية؛ وهي لوحتان لصراع الديكة، هذه اللعبة المتوحشة، ولوحتان تجسّدان صحنا عراقيا تقليديا شهيرا اسمه “باجة”.
لعبة متوحشة
يعلّق قيس السندي على واحدة من اللوحتين اللتين تجسّدان صراع الديكة على صفحته الفيسبوكية بهذه الكلمات “يتحتّم من أجل الفوز في هذه اللعبة الشهيرة؛ صراع الديكة، أن يقتل أحد الديكين الديك الآخر بمخالبه ومنقاره، فبذلك يكون الفوز معمدا بدماء المهزوم. وهكذا في الحياة، المفهوم ذاته. فإن الفوز في السلطة لن يكون إلاّ بإنهاء الآخر والقضاء عليه”.
ولا يبدو واضحا في اللوحتين أي ديك هو الفائز، أو هو قاب قوسين أو أدنى من الفوز. يصوّرهما الفنان معلقين في فضاء باهت لونه، فعليا ودلاليا، وهما في تناحر شرس يتماسك فيهما الريش على الأجساد ويستمرّ الصراع دمويا.
الفنان العراقي استعار المآدب والأطعمة المختلفة ليمنحها أبعادا ترمز إلى الاستغلال والجشع وغيرها من المعاني السلبية
وعلى الرغم من احتلال الديكين المساحة الأكبر من اللوحتين، وحضورهما في وسطهما، إلا أن ما يشدّ إليه النظر في إحدى هاتين اللوحتين هو ما يقبع في أسفل اللوحة غير مكترث بما يحدث في “فضاء الوجود” من اقتتال روتيني. والمقصود هنا، ذاك الحضور اللافت لدجاجة بيضاء مكتنزة هي من دون شك ترمز من ناحية إلى “الشعب” كهدية للفائز، ومن ناحية أخرى تعبّر عن انشغاله بما هو أقل أهمية من التقاتل الحاصل.
وضعها الفنان العراقي على شكل نصب يُذكّر بمذبح اعتاد أن يستقبل أضحية مُختارة. أما انشغال الدجاجة، المتميزة بصغر حجمها وبشكل كبير بالنسبة إلى الديكين المتصارعين، فتبدو مشغولة بالتقاط حبوب من قمح غير موجود.
والحقيقة أن هذا النصب المُصغّر يبدو في الصورة التي وضعها الفنان على صفحته إما جزءا مرسوما من اللوحة أو هو تجهيز فني وضعه قيس السندي أمام لوحته ليستكمل المعنى الذي أراد إيصاله للمُشاهد. ربما من الأفضل أن لا نعلم حقيقة الأمر. وليُحضر كل مُشاهد لعالم لوحة الفنان ما يراه مناسبا. وقد نميل إلى اعتبار هذا النصب تجهيز موضوع إلى جانب اللوحة تكمن قوته على أنه يربط الواقع المعيش بواقع اللوحة، وحقيقة ما تعبر عنه من اقتتال بات السمة الرئيسية لحياتنا في هذه المنطقة من العالم.
ونذكر في هذا السياق أن الفنان هو متعدّد الوسائط وقد سبق أن استخدم التجهيز والفيديو في تعبيره الفني.
"باجة" العظام
أما اللوحتان اللتان تحملان عنوانا واحدا (من مجموعة قد يتابع الفنان مهمة إنجازها) وهو “هياكل الباجة” فيعلّق عليهما الفنان في صفحته الفيسبوكية، قائلا “الفاسدون من السياسيين لن يتركوها، إلا وهي جماجم وعظام”. فيتشاركان مع اللوحتين السابقتين بسكون الخلفية اللونية التي تشير إلى السقم واللامبالاة أكثر من أي معنى آخر. فهذه الخلفية الباهتة والعاجية قادرة على ابتلاع أي لون وتحويله إلى رثاثة فاقدة لأي معنى، في حين يستطيع اللون الأسود فرض جو من السكون. ولكن مع درامية عميقة لا يفقه معناها اللون العاجي الذي استخدمه الفنان.
لم يكن الفنان الأول ولن يكون الأخير في استعارة المآدب والأطعمة المختلفة وإعطائها معاني ترمز إلى الاستغلال والجشع وغيرها من المعاني السلبية، وقد حفل التاريخ الفني الغربي والعربي على السواء بالعديد من تلك الأعمال. غير أن ما يميّز هاتين اللوحتين هو برودة الألوان المستخدمة التي من ناحية تحاكي الحقيقة ومن ناحية أخرى تشير إلى اهتراء المشاعر و”الحالة العادية” لجرائم الفساد المستشرية في مجتمعاتنا، وذلك مع أو من دون تدخل الأجنبي في شؤوننا العربية الداخلية.
وثمة أمر آخر قد لا يكون التفت إليه الفنان، ولكن ضاعف من معنى اللوحتين، وهو أن هذه الأكلة العراقية الشهيرة المُسماة بالباجة ليست بأكلة رائجة جدا في كل الدول العربية، وهي بالنسبة إلى الكثير أكلة “مقزّزة”. وحضورها في لوحة الفنان هو إشارة، على الأقل بالنسبة إليه، إلى وحشية ما لا يعترف به الكثيرون أمام محبي هذه الأكلة. وأكلة “باجة” لمن لا يعرفها هي رأس الخروف أو العجل بعد ذبحه. يتم تنظيفه جيدا بإزالة الشعر عن الجلد بالماء الحار، ثم يقطّع إلى نصفين أو أكثر بـ”الساطور” ويجهّز بعد ذلك لعملية الطهي.
والفنان التشكيلي العراقي قيس السندي من مواليد عام 1967، حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الفنون الجميلة من جامعة بغداد، وهو مقيم في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة.
أقام السندي العديد من المعارض في دول عربية وأجنبية منها معرض “الحب والسلام” في نيويورك 2009، و”عيون عراقية” في ولاية مشيغان بالولايات المتحدة عام 1996، و”بلاد الرافدين مهد الإبداع وأرض الحضارة” في كاليفورنيا، إضافة إلى معارض أخرى في الأردن ولبنان والبحرين والإمارات وألمانيا وهولندا وسويسرا.