الفنان العراقي صادق كويش الفراجي وسردية البوابة المطلقة

انعكست الصراعات والأزمات التي يعيشها العراق على روح الفنان صادق كويش الفراجي فجعلته يتخذ اللون الأسود لونها الأساسي والأبرز في تكوين أعماله التشكيلية، لكنه أسود يحضر على غير هيئته، ينفي سطوة بقية الألوان ويجعل له شخوصا وهيئات حادة مرتبطة بالماضي الأليم.
من المعروف عن الفنان العراقي متعدد الوسائط صادق كويش الفراجي نشاطه في تقديم معارض كثيرة الواحد تلو الآخر، حيث يجيء بعضها متزامنا، ولكن في مدن مختلفة.
مؤخرا قدمت صالة “أيام” الفنية مجموعة أعمال له من ضمن حدث “أرت جنيف”، وذلك في الفترة الممتدة ما بين الخامس والعشرين والتاسع والعشرين من يناير الفائت. وجاءت المجموعة تحت عنوان “لغة تحت جلدي”، وهي مجموعة، كما ذكر القيمون على الصالة، نوع من تقديم مبدئي للمعرض الفردي الذي ستقيمه في الصالة في دبي في مارس الجاري.
ثم في الشهر التالي وتحديدا في الثامن والعشرين من فبراير الماضي تم افتتاح معرض فردي له في صالة أيام تحت عنوان “تلك المنازل خلف قناة العسكر” وموضوعه الرئيسي هو جيل والد الفنان الذي غادر الجنوب باتجاه بغداد.
أمام هذين المعرضين وأيضا أمام معارضه السابقة يمكن أن نعتبر الفنان صاحب نص بصري/سردي شديد الترابط ويحيل إلى بعضه بعضا في شعرية داكنة قبل أي شيء آخر، جعلت من “اللون” الأسود بوابة، وللمفارقة جعلت منه متنفسا إلى عوالم تنسج أواصرها في وجدانه في غرائبية تمت إلى الخيال المتروك إلى تجلياته غير المحدودة مع كونه معروكا بالذكريات الواقعية وبتماس مع أفكار فلسفية تتخطى آنية الحوادث وشخصية المراحل الحياتية التي مر بها الفنان.
الأسود، الذي قبع الفنان في ظله البارد، ومكّنه من أن يصنع نصا عاطفيا وعقليا في آن واحد، حضر رويدا رويدا بعد، وربما قبيل الفظائع التي عاشها العراق. كشّح الأسود الألوان الأخرى ووضعها في صناديق عميقة في روح الفنان لتتيح له أن يستمد منها “تلاوين” روحه وفكره وهي في عزّ منفاها، أي منفى الألوان.
اختار الفنان صادق كويش الفراجي أن يجعل الأسود ملكا. وأن يكون صدى لكل ما عاشه ورآه. بذلك انتفت عن “الأسود” صفة الفراغ أو انعدام اللون. وربما هنا تحديدا نعثر على الجانب “التفاؤلي” الوحيد في مجمل أعماله السابقة كما الحالية. أو ربما شبه الوحيد لأن العنصر التفاؤلي الثاني هو في كون الفنان يؤرخ مصائب الأمة ويفضح بواطنها ويبقيها كجزء من الذاكرة الجماعية ليس فقط لأهل العراق، بل لكل المنطقة العربية، لاسيما فلسطين ولبنان وسوريا.
وفي هذا السياق نذكر أن الفنان أشار في أحد أهم معارضه “نحن كلنا سيزيف.. سيزيف، وفي هذه اللحظة، له وجه ولسان عربي”. وكما ذكرنا آنفا أصبح هذا الأسود، أسود صادق كويش الفراجي البوابة التي عبر منها من وإلى العالم، العالم الخارجي والداخلي فوجد فيه حرية تنقل ساحر عاش متواطئا مع الأسود فأصبح مع الوقت وتتالي المعارض كليمه والناطق باسمه وحمّله أيضا ما في نفسه والمتجانس معه أي مع الأسود والصفات الخاصة به والمتعارف عليها.
الفنان التشكيلي العراقي اختار أن يجعل الأسود ملكا، وصدى لكل ما عاشه ورآه. بذلك انتفت عن {الأسود} صفة الفراغ
الفنان العراقي يسرد فصولا في معارضه ومشاركاته الفنية وجاء معرضا “لغة تحت جلدي” و”المنازل خلف قناة العسكر” في صميم وسياق هذه السردية.
يذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض مقتبسا كلمات الفنان “ملكة التفكير هي ما صاغت اختياراتي ومجمل قراراتي. غير أن تفكيري يقع دوما تحت سلطة الخيال الذي بدوره يتحول إلى اللغة السابقة لأي ولادة تحدث أو تستقر في وجداني”.
وفي كلمات الفنان هذه نتعرف أكثر على فنان يخرج ويدخل من ذات البوابة إلى ما يسكن روحه وما ينضح عنها، بوابات أخرى جل ما تجلت في معارضه السابقة بالمخلوق الأسود المائع الشديد الليونة والمثقل ليس بما يحتويه بقدر ما هو بوابة مكتظة بما يدخل ويخرج منها.
يصعب اختصار ما يقدمه الفنان اليوم لكثرة المعاني والصور التي يقدمها لجمهوره، ولذاته أولا. وهذه البلبلة المتأتية من هذا الضجيج الصامت الذي يحمل الكثير من الأسئلة المفتوحة وتلك التي مجرد حضورها هي أجوبة أو احتمالات أجوبة. وقد جاء البيان الصحافي المرافق لمجموعة أعمال “اللغة تحت جلدي” صدى خارقا.
مما يذكر البيان “هل اللغة هي ما تصنعنا أم أنها مجرد وسيلة للتعبير والتواصل؟ يحاول الفنان أن يجول في صليل الأسئلة الوجودية من خلال بوابة ما يمكن أن تجسد كلمة/معنى اللغة وذلك من خلال اللوحات الكبيرة الأحجام والرسوم المتحركة.. عمل الفنان، في سياق ما يمكن أن تعني اللغة، يشكل أصداء لماهية الجسد والعناصر كلغة وكموطن لها ولتجلياتها..”.
وكما تتعدد الأسئلة واحتمالات الأجوبة، كذلك تتعد الوسائل والتقنيات التي وظفها صادق كويش الفراجي في فنه. رسومات ولوحات وجداريات وأعمال تجهيز ورسوم متحركة، ولا تنضب محاولات الفنان في تجسيد كل ما يعج في ذاته لذلك نراه دوما يدخل عوالم مختلفة للتعبير فيبرع فيها.
ليس جديدا على أحد من متابعي الفن بأن عمل الفنان العراقي في هذين المعرضين وفي أعماله السابقة ككل يهجس بأفكار الهجرة القصرية والمنفى والغربة والحروب والموت وأثر الطفولة وذكرياتها وحالة العيش بين وطنين: الأصلي وذلك الذي حط رحاله فيه. لا بل في معارضه الأخيرة تناول الفنان بشكل غير مباشر غربة يمكن أن نعتبرها مضاعفة لأنها غربة متأتية من الفاصل ما بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي وتحيلنا أجواء أعماله هذه إلى ما قاله يوما “الهوية هي وجه لا ملامح له”.
في معارضه الأخيرة تناول الفنان غربة يمكن أن نعتبرها مضاعفة لأنها متأتية من الفاصل ما بين الواقعي والافتراضي
جلّ ما يقال إن كان ثمة ما يختصر عالمه الفني أو ما آل إليه فنه اليوم هو أنه تعبير صارخ بما يعني أن منطق “العالم قرية صغيرة” هو أكبر كذبة تريد أن تفرض ذاتها على البشر. أما الجداريات، بل لنقل اللوحات الكبيرة جدا إنما هي من صميم تراث عراقي أصيل يتحدث عن الأساطير المجبولة بالواقع الفجّ، منها ما يطرح أسئلة إضافية ومنها ما يجعل الإجابة صليلا تحت الجلد. يفيض بالتقرحات وأيضا بماء الورد وزيت العنبر العتيق الذي يمكن أن يستحيل خانقا رغم حلاوته.
وفي كل الحالات كل ما يفيض وينضح أو يستقر ويتخثر هو ثقل لا يحتمل. وما كان على صادق الفراجي إلا أن يحول هذا الثقل، بشكل مباشر وغير مباشر، بهيئة واعية وغير واعية، إلى بوابة مفضية إلى الماضي وإلى العودة منه. وهكذا تظهر أعماله ككل، شاهدة على أزمنة وأمكنة مختلطة في تخاصم وتعاتب وصراع وعناق. لا يغلبها الحنين الدامي بقدر ما يضبط سياقها الجامح غير المتجانس حصان أسود وشاهق كذلك الذي ظهر في مجموعة أعماله تحت عنوان “المنازل خلف قناة العسكر”.
يذكر أن صادق كويش الفراجي المولود في بغداد عام 1960 درس في معهد الفنون الجميلة وأكاديمية الفنون الجميلة في العراق عام 2000، حيث تابع تحصيله للحصول على دبلوم عال في التصميم الغرافيكي من معهد كونستانتين هايجنز في هولندا، حيث يقيم حاليا.