الفنانون الشباب ينجحون في الاختبار الأصعب

فيلم "افتح الرسالة" يأتي في الاتجاه المعاكس، ويحاول السباحة ضد التيار، بتقديم منتج فني جيد وطرح قضايا مصيرية، فضلا عن الإضحاك والهزل والغناء والسخرية.
الاثنين 2018/07/23
الفيلم يقدم نقدا لاذعا للإعلام الكاذب
 

ثمة فكرة خاطئة تهيمن على صناعة السينما وسوقها وفنياتها بمصر، هي أن الفيلم الروائي، قصيرا كان أم طويلا، محكوم بأحد اختيارين، فإما أن يكون فيلم مهرجانات للنخبة، وإما فيلما شعبيا للجمهور، فيما الأجدر أن تبتعد الأفلام الجادة عن هذه التقسيمات الثنائية الجاهزة، وهو ما يراهن عليه الفيلم الأخير للمخرجة نيفين شلبي جراح “افتح الرسالة”.

القاهرة- نكأ الفيلم الروائي القصير “افتح الرسالة” للمخرجة نيفين شلبي جراح المجتمع المصري بإثارته قضايا جوهرية، مثل الفقر والبطالة والتحرش وتغييب الوعي وسيادة الطبقية والزيف الإعلامي، وحظي الفيلم بصدى طيب في أول عرض جماهيري له في القاهرة بعد حصده جوائز من مهرجانات دولية.

يأتي فيلم “افتح الرسالة” في الاتجاه المعاكس، ويحاول السباحة ضد التيار، بتقديم منتج فني جيد وطرح قضايا مصيرية، فضلا عن الإضحاك والهزل والغناء والسخرية، فلا هو فيلم شعبي ولا هو فيلم للنخبة، وهذه هي المعادلة التي يراهن عليها.

رؤية متوازنة

هناك أكثر من اختبار يواجهه الفيلم الذي يسعى إلى تحقيق قيمة ما أو ترك أثر يُذكر، منها خوضه المسابقات والمهرجانات والمشاركات الدولية، ومنها الاختبار الأصعب، وهو اللقاء المباشر مع الجمهور العادي في قاعة العرض.

هذه الاختبارات جميعا اجتازها فيلم “افتح الرسالة” بقدر من النجاح، فقد لقي استقبالا حسنا في عرضه الجماهيري الأول بمصر في “غاليري ضي” بالقاهرة مساء 16 يوليو الجاري، كما أنه نال ثناء دوليا خلال مشاركاته هذا العام في مهرجاني “الأقصر للسينما الأفريقية”، و”القاهرة للأفلام القصيرة”، وفي مهرجان “سينما المناجم الدولي” بتونس، الذي نال فيه جائزة لجنة التحكيم.

عبر خمس وعشرين دقيقة، هي مدة الفيلم، تقدم السيناريست والمخرجة نيفين شلبي رؤية متوازنة بين التكنيك الفني والطرح الاجتماعي، فهي تنطلق من قضايا جادة ساخنة في الأساس، لكنها اختارت قالبا إبداعيا يجب أن يكون ممتعا وشيقا وجذابا، ومتطورا أيضا من حيث الأداء والتقنية.

يعد التكثيف سمة لازمة للفيلم الروائي القصير كلون فني لا يتجاوز الساعة بأقصى تقدير وفق تعريفاته الرائجة، لكن هذه الصفة لم تمنع نيفين شلبي من حشد جملة من القضايا في شريط الفيلم، وتقديم أكبر عدد من الشخوص كصنّاع للحدث، الأمر الذي بدا كأنه استعراض أفقي لسلبيات المجتمع ونماذجه البشرية، دون الرغبة في التعمق النفسي والتحليلي للمواقف والشخصيات.

هكذا، يمكن النظر إلى “افتح الرسالة” كفيلم قصير مكتمل من جهة، كما يمكن اعتباره من جانب آخر نواة لفيلم روائي طويل، إذا أعيد استثمار أبطاله في معالجة درامية أشمل وأكثر قدرة على الاستقصاء والتأمل ووضع الحلول.

من خلال شخصية محورية وشخصيات أخرى متناقضة تدور أحداث “افتح الرسالة” على مدار نصف يوم. فالشاب عاطف يائس ومحطم ولا يهتم بمظهره ويطلق لحيته وشعره دون تهذيب ويعاني مرضا نفسيا من فرط الاكتئاب، وهذا الشاب مطالب من الجميع بأن يفتح رسالة مهمة وصلته على هاتفه من طبيبته كي يقرأها بعناية، ولا يعرف أحد محتواها. في النهاية، يُكتشف أن الرسالة تطالب عاطف بأخذ الدواء وإعادة الاعتناء بذاته قبل أن يتفاقم المرض النفسي وتترتب عليه انتكاسته وعودته إلى المصحة.

 مشاهد مضغوطة

نظرة جانبية إلى واقع مخفي
نظرة جانبية إلى واقع مخفي

تضم شخصيات الفيلم وجوها متعددة من إحباطات عاطف، فهم ممثلو المجتمع بكافة فئاته وطبقاته، وهذا المجتمع هو الذي أوصل عاطف، نموذج الشاب المصري، إلى هذه الحالة.

عبر الظهور الخاطف لأبطال الفيلم، في مشاهد قليلة مختصرة، يُعرّي الفيلم سلبيات المجتمع المصري بجرأة متناهية، ويشرّح مكامن الخلل في نسيجه الحالي، فهو مجتمع تتآكل فيه الطبقة المتوسطة، وتزداد الهوة بين الأقلية “سكّان المنتجعات الراقية” وبين عامة الشعب ممن تضيق أمامهم فرص الحياة.

لقطات الفيلم تمر مرورا سريعا على هذه الشخصيات المتناقضة، راصدة القليل من تفاعلاتها وحركتها اليومية، لكنه القليل المؤثر، الفاضح، فهناك في المجتمع الراقي المذيعة إلهام (صاحبة برنامج على بلاطة) التي يسخّرها الإعلام الفاسد من أجل تزييف الحقائق. وهناك الراقصة التي تقدم وجها آخر للسقوط الجسدي، في حين تتغنى بالشعارات الأخلاقية وبإنجازات الوطن أمام الكاميرات، وهناك مرشحو الانتخابات الذين يقف إنجازهم دائما عند حدود الوعود الكاذبة. وفي المقابل، يبرز الفيلم تجارب الكثير من الشباب الذين يمثلون الفقر والبطالة والإحباط والتغييب.

دفع الإنتاج المستقل للفيلم إلى الاعتماد على شباب مغمورين، منهم سارة عادل ورينا عارف وأحمد عصمت ونوال سمير وأحمد الخفيف، وجاء أداؤهم تلقائيا حساسا متناسبا مع المواقف الدرامية، في حدود المشاهد المضغوطة التي اعتمدت على القليل من الكلام والكثير من نظرات العيون وانفعالات الوجوه والتعبير الإشاري والجسدي المرهف.

إلى جانب هذه الجدية في معالجة قضايا الفيلم، أمعنت نيفين شلبي في مغازلة الجمهور بالبساطة في التناول، ودارت الكاميرا متفقدة تفاصيل الأحوال المعيشية في المناطق الفقيرة والعشوائيات، وانبنت بعض المشاهد والمواقف الدرامية على السخرية المريرة والإضحاك والكوميديا السوداء.

وتقول شلبي لـ”العرب” إن صنّاع العمل لم يعنوا بالربحية، لكن ليس هناك ما يمنع من التكسب من وراء الفيلم بطبيعة الحال. لكنها ترى أن القنوات الفضائية ليست الجهة المثلى لعرض الأفلام الروائية القصيرة تجاريا، فهذه القنوات تتحمس للمسلسلات والأفلام الطويلة وأعمال يقوم ببطولتها النجوم.

وأشارت إلى أن مشكلات السينما في مصر تعود في الكثير من جوانبها إلى نوعيات الأفلام المطروحة ذاتها، وقالت “التعالي على البسطاء أبرز أسباب أزمة السينما بمصر، فلو حرص صنّاعها على تناول قضايا العاديين بأمانة، والوصول إلى سكان المناطق الفقيرة والعشوائيات، سوف تلتحم السينما بالناس، وينهض الفن السابع من جديد”.

14