الفنانة هبة درويش ولُزوجة الغوص في المياه العميقة

انطلاقا من رغبتها في التأمل في الرموز والحالات النفسية والوجود، وبحثها الدائم في القلق والفرح والمشاعر الإنسانية المتضاربة، تواصل الفنانة اللبنانية هبة درويش رسم لوحات وتنظيم معارض تعكس رؤيتها للواقع والأحداث الكبرى المؤثرة في لبنان واللبنانيين.
قدمت مؤخرا صالة “إكزود” الفنية معرضا للفنانة التشكيلية اللبنانية هبة درويش جمع 30 عملا مشغولا بمادة الأكريليك، وحمل عنوان “أسوح” وشمل مشاهد تجريدية وتشكيلية وانطباعية.
وذكر البيان الصحفي المرافق للمعرض أن الأعمال المعروضة ما هي إلا “تسجيل لثلاث سنوات مضت كما الخيال، مثقلة بمشاعر متناقضة. هدوء الطبيعة يرافقه صخب الأحاسيس التي تخالج الإنسان، فنجد أنفسنا أمام وجوه تائهة، متسائلة، حائرة تتوق إلى الولوج إلى حضنٍ آمن، إلى أماكن كأنها سحريّة من خارج المكان والزمان. كل ذلك في خضم تحولات تشهدها الحياة فتتركنا في بحر من الغموض لما تخبئه لنا الأيام لاحقًا. ريشة ذكيّة، حركة لونيّة، أشكال إيحائيّة، أبدعت هبة درويش في خلق مشاهد هي أقرب إلى ومضات زمنيّة”.
وشكل هذا المعرض جزءا من سياق عمل الفنانة التي تميل دوما إلى خلق عوالم ضبابية فيها الكثير من الغموض. حتى الأعمال التي طغى عليها التشكيلي على التجريدي حافظت على الأشكال والهيئات الظاهرة فيها لتكون في معظمها على عتبة التحول إلى مساحات من الفن التجريدي البحت.
وربما من أجمل ما قدمته الفنانة هبة درويش في معرضها هذا، كما في العديد من معارضها السابقة، هو اللوحات التي يغلب عليها الأسلوب التجريدي والتي طغى فيها اللون الأزرق بتدرجاته لاسيما الداكنة منها التي تحيلنا إلى مياه عميقة جدا يصل إليها الضوء بصعوبة ويظهر من خلال تموجات قليلة وكثيفة.
من ذلك مثلا اللوحات التي تحولت فيها الموجودات -التي ترمز إلى حالات نفسية أو تأملات في الوجود- إلى ما يشبه الطحالب البحرية المستريحة على صخور الشاطئ والتي ما إن ينزلق منها طرف مهما كان قصره في البحر حتى يمتد ويفلش ويطوف قليلا على سطح الماء المتحرك.
هكذا هي الحركة في لوحات الفنانة: إشارة إلى وجود حياة تكمن بالقوة وليس بالفعل ما تحت طبقات من الاختناق المتقطع مما يجعلها مشاريع لحياة مقبلة لم تتبلور بعد بالشكل الكامل.
وحين نشير إلى أن الفنانة هبة درويش ذكرت في أكثر من مناسبة أنها مشغولة بأسئلة وجودية وباحثة في عوالم القلق والفرح الإنساني، وكذلك في أبعاد التناقض ما بين المشاعر المختلفة، ندرك أن انشغالها هذا أوصلها إلى التجريدية الأكثر قدرة على التعبير المفتوح على كل تأويل.
والناظر إلى أعمال درويش الحالية يعثر على فنانة ما زالت متمكنة من تبنّي أنماط فنية مختلفة وهي التشكيل والتجريد وتصوير المشاهد الطبيعية ووجوه الشخوص دون أن تخرج من هوية وأجواء لوحتها الواحدة التي فيها الكثير من الكآبة والقليل مما يومض هنا أو هناك في اللوحة كأمل بارق.
وفي هذا السياق ذكرت الفنانة “رسالتي من خلال رسوماتي لنكون دائما واقفين موجودين، نشعر بوجودنا، نترجم حضورنا، ننظر إلى أنفسنا لنستطيع أن نكمل. علينا أن نتشارك، أن نتحدث، نتحاور لنذلل الصعوبات، لإيجاد حلول، وضرورة إيجاد حلول، الحلول بسيطة، ولكن الحديث عن المشاكل وتحليل المشاكل يجب أن يأخذ دراسة أكبر، هذا الحوار وهذه الدراسة سيكونان العمل لإنتاج وطن نتشارك به جميعنا”.
وأوضحت “أن الوصول إلى إجابات محددة في عالم المجهول المضطرب ليس هو المهم، لأننا قد لا نصل إلى إجابة، لكن المسار العام المتضمن محاولات البحث هو الأهم. مسار طويل ومعقّد، يفرض تسمية المعرض ‘أَسُوحُ’ كرحلة ومحاولة تفسير ما نواجهه في العالم من حولنا”.
وبالنسبة إلى عنوان المعرض ذكرت الفنانة “استلهمت العنوان (أَسُوحُ) من أغنية ‘أسوح بتلك العيون’ للفنان الموسيقار اللبناني مرسيل خليفة، بهذه الكلمة استطعت أن أعبر عن مشاعر الإنسان التي نعيشها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، دلالة على التجوال والنظر والمراقبة. فقد ترجمت كلمات إحساسي بريشتي”.
هذا “السوح”، إذا صح التعبير، أو التجول دون هدف محدد الذي تحدثت عنه الفنانة، من الصعب اعتباره أفقيا ككل حركة تمتد وتتوسع في العوالم. ونادرا ما يحيل تجوّل الفنانة إلى فكرة العبور والانتقال من جو إلى جوّ آخر. بل هو، من هذه الناحية، أشبه بتبلّد في زمن واحد إذ يتشكل نص الفنانة من خلال تراكم الطبقات اللونية واختلاف ضربات الريشة، التي تدور وتنسكب وتنسدل على قماش اللوحة بعيدا عن الحدّة والتقطّع. هي وحدها، أي الطبقات اللونية المتراكمة التي بالكاد تشف بعضها على البعض الآخر، تظهير لمراحل “السوح”.
ربما الأصوب استخدام كلمة “مراوحة” لتوصيف ما يجري في لوحة الفنانة. ويمكن اعتبار أن هذه المراوحة هي ما صار إليه هذا “السوح” البطيء واللزج كمياه مستنقع لا يسمح لنا بأن نرى قاعه إلا قليلا ونكتفي بالصور التي يرينا إياها كانعكاسات كما يحدث في ليلة صافية وهادئة تسيّدها ضوء القمر.
يُذكر أن الفنانة هبة درويش من مواليد عام 1981، تحمل الدكتوراه في الفن وعلوم الفن من كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، ودبلوم دراسات عليا، بالإضافة إلى ماجستير في الرسم الجداري من معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية.
لها أربعة معارض فردية بين بيروت وطرابلس، أولها سنة 2004 في طرابلس، ثم انتقلت إلى العرض في غاليري “زمان”، وغاليري “إكزود” في بيروت، قبل أن تعود إلى طرابلس مجدّدا في معرضها الحالي. شاركت الفنانة في أكثر من 40 معرضا وندوة جماعية، في لبنان ومصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا، وفازت سنة 2016 بالجائزة الثانية في معرض “منتانا” للفنون في إيطاليا، وشاركت مرات عديدة في بينالي فلورنسا. وهي أستاذة في عدد من الجامعات اللبنانية، منها الجامعة اللبنانية الدولية، والجامعة اللبنانية حيث تخرجت، بالإضافة إلى كونها عضوا في الهيئة الإدارية لجمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت سابقا.