الفلسطينية رولا حلواني تلبس الغياب قفطانا فضياً

"لأجلك أمي": صور معدلة عن فلسطين قبل النكبة الأولى.
الأربعاء 2023/01/18
صور معدلة لفلسطين

عادت الفنانة رولا حلواني تصوير فلسطين كما يعرفها القدماء من خلال ذاكرة والدها والأماكن التي يحبها ويستحضرها. وهي اليوم تعيد أيضا البحث في ماضي البلاد والعباد انطلاقا من ذاكرة والدتها، فتهديها وتهدي الفلسطينيين ومتابعي أعمالها الفنية معرضا بعنوان "لأجلك أمي".

افتتحت صالة “أيام” في دبي في الحادي عشر من يناير الجاري معرضا فنيا للمصورة الفلسطينية رولا حلواني تحت عنوان “لأجلك أمي” ويضم مجموعة من الصور المُعدلة والتوثيقية في آن واحد من نسيج ذاكرتها وشوقها إلى فلسطين قبل النكبة الأولى. يستمر المعرض حتى الثالث والعشرين من فبراير القادم.

يُمكن اعتبار أن المعرض بمثابة فصل مُكمّل للفصل الأول الذي قدمته في الصالة ذاتها سنة 2015 وحمل عنوان “لأجلك أبي”. وبإهداء الفنانة والمصورة أعمالها هذه إلى الوالدين تكون قد حققت إلى جانب تلبيتها رغبة شخصية عميقة متعلقة بحبها لوالديها، تقديم عرض شاعري مُقتضب له أصداؤه في نفوس الشعب العربي بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص.

“لأجلك أمي”، عرض مؤلف من عدة صور فوتوغرافية مُعدلة ديجيتاليا هي أشبه بزفرات شبيهة بتلك التي نطلقها ونحن مارون في الشارع تحت وطأة برودة قارسة في يوم مثلج. كل من رأى أعمال المصورة والفنانة في هذين المعرضين يدرك أنهما مُخصصان لسيرة وطن اسمه فلسطين نما وسيستمر نموه على أكتاف قطبين مركزيين هما الأم الفلسطينية والأب الفلسطيني وذلك من خلال إهداء المعرضين إلى والديها.

بوكس

ذكرت الفنانة رولا حلواني أن معرضها “لأجلك أبي” الذي قدمته سنة 2015 هو تحية له وللذكريات التي كونتها انطلاقا من تلك المناطق التي زارتها بصحبة والدها والتي أخبرها عنها الكثير. وأرفقت معرضها برسالة إلى والدها المتوفي تعبر فيها عن حزنها لأن كل الأماكن التي زاراها سويا لم تعد كما كانت وأنها أصبحت تشعر بذاتها غريبة في وطنها.

استخدمت الفنانة في ذلك المعرض ما يسمى بـ”مرشح لموجات الأشعة تحت الحمراء” فأعطت الصور الفوتوغرافية التي التقطتها أجواء شبحية مؤثرة. وتناولت تلك الصور مشاهد طبيعية لمناطق قبل وبعد النكبة. أما معرضها الجديد الذي يحمل عنوان “لأجلك أمي” فيمكن اعتباره أكثر درامية أو لنقل أكثر حزنا وغرابة. ربما لأن مرور الزمن وترسخ الفجيعة الفلسطينية على الأرض كما في الوجدان ساهما في جعلها كذلك.

وتُطلع الفنانة المصورة زائري معرضها عن مناسبة هذا المعرض القائم على محادثة جرت بينها وبين والدتها حيث سألتها إن أعجبها معرضها “لأجلك أبي” فأجابتها أنها أحبته كثيرا ثم أضافت “هل ستهديني أنا أيضا معرضا يحمل اسمي بعد أن أغادر هذا العالم؟”، فأجابتها ابنتها “أمي لا تتكلمي عن الموت. سأكرمك في مجموعة من الصور وأنت معنا هنا".

غير أن المؤلم في هذين المعرضين أن الأول كان تحية لوالد الفنانة وتخليدا لذكراه بعد وفاته، أما الثاني فهو لوالدتها وهي على قيد الحياة، ولكن طول الفترة التي كانت فيها رولا حلواني تراكم الصور في المجموعة الجديدة كانت والدتها تنزلق يوما بعد يوم في نفق فقدان الذاكرة الناتج عن إصابتها بمرض الزهايمر. وكأن الموعد مع الذاكرة في محاولة ترسيخها من ناحية وفقدانها لا إراديا من ناحية ثانية يصبحان كُلاّ واحدا ومجبولا بألم يحمل مذاقا فلسطينيا لا لبس فيه.

وتقدم الصالة معرض الفنانة بهذه الكلمات “ينقسم المعرض إلى قسمين: الأول الذي نفذته رولا الحلواني ما بين سنتي 2018 و2020 ويضم 11 صورة منفذة بتقنية الفوتومونتاج ما بين صور من قبل النكبة بحثت عنها الفنانة بحثا حثيثا وحصلت عليها من مجموعات خاصة ورسمية، وما بين الصور الحالية التي التقطتها بعدستها وهي من وحي كلمات الوالدة. بينما القسم الثاني يضم مجموعة من الصور القديمة التي عالجتها ورممتها الفنانة وهي تتلاقى مع ما تعلمته من والدتها إن كان من ناحية المعتقدات أو من ناحية أسلوب العيش".

وتتابع "أكملت الفنانة هذه المجموعة سنة 2022. في مجمل المعرض تتساءل عن معنى الأمومة بالمعنى المطلق: الأم، والوطن الأم، والطبيعة الأم". ويضيف البيان الصحافي المرفق بالمعرض أن الفنانة حلواني لم تكتف فقط بمحاولة إعادة احياء روحية الأمكنة، بل أيضا "استحضار ‘أرواح’ النباتات، إذا صح التعبير وتلك التي تحتضنها الصخور والحجارة".

شعرية كبرى مرتبطة بقيمة الذاكرة وحضورها
شعرية كبرى مرتبطة بقيمة الذاكرة وحضورها

وقد ذكرت الفنانة أن الطبيعة بنباتاتها المتوحشة كانت لها أهمية كبيرة بالنسبة إلى والدتها وتذكر من تلك النباتات أزهار البابونج والزعتر البري والميرمية. وللمفارقة يمكن أن نقول إن تلك الأعشاب تتمتع بعطور نافذة وتحيلنا بذلك إلى بقاء العطر حتى بعد زوال النبتة وفي ذلك شعرية كبرى مرتبطة بقيمة الذاكرة وحضورها.

ونذكر هنا في محاولة لتخيل تلك العطور ومراوحتها ما قاله يوما ما الشاعر العراقي سركون بولس “أريد أن أشكر الغبار الذي أحمله كالإرث أينما ذهبت”. والغبار الناتج عن الصخور المسحوقة والنباتات المندثرة حاضر وبقوة في صور الفنانة الفلسطينية وهو قد تخثر وتماسك ليكون هيئة شعرية ما بين الوهم والحقيقة.

◙ أعمال المصورة مُخصصة لسيرة وطن اسمه فلسطين ينمو على أكتاف قطبين مركزيين هما الأم والأب الفلسطينيان

وتبرز ملامح هؤلاء الناس كما في ما يسمى بـ”أفتر إيماج” أي الصور التي تظل حاضرة في العين بعد أن تتعرض العين لفترة طويلة للصورة الأصلية.

تحضر هذه الصور الشبحية في “سماوات” رولا الحلواني، صورا شبحية لأهل تلك القرى المندثرة، صورا شاهقة انبثقت من غبار الماضي لتصبح ليس غيوما مطلة على المكان/الحاضر، بل نفسا عميقا وعطرا لا يغيب وإن غابت مصادره. الصور باتت أقوى حضورا من اندثار مصدرها وفي ذلك استمرارية للذاكرة ولفلسطين التي نعرفها قبل أن تتبدل مشاهدها الأرضية.

يُذكر أن رولا حلواني ولدت عام 1964. وشكّلت صورها الفوتوغرافية جزءاً من مقتنيات مركز جورج بومبيدو العالمي، باريس، ومقتنيات نادور، ألمانيا، ومتحف فكتوريا وألبرت، لندن، والمتحف البريطاني، لندن، مؤسسة خالد شومان، عمّان، ومتحف الفنون الجميلة، هيوستن، وغيرها من مؤسسات ومتاحف.

وهي حاصلة على بكالوريوس فنون في التصوير الفوتوغرافي المتقدّم، جامعة ساسكاتشوان، كندا (1989)، وماجستير الفنون في الدراسات الفوتوغرافية، جامعة ويستمنستر، لندن (2001). وحصلت حلواني عام 2016 على زمالة الإقامة الفنية في مؤسسة كامارغو في كاسي، فرنسا. وترافقت مسيرتها الفنية مع إطلاقها برنامجاً فوتوغرافياً في جامعة بير زيت (2001-2015) شغلت فيه منصب مدير مؤسس وأستاذ مشارك.

14