الفقر والكحول والسياسة وعربة الأطفال.. ألدّ أعداء الكاتب

هل أنت ميال إلى أحلام اليقظة؟ هل تدمن الكحول والتدخين؟ هل تتعاطى السياسة؟ هل لك علاقة عاطفية أو عائلية؟ هل تحبّ الجدل والنقاش وحياة المجتمع الراقي والنجاح والظهور؟ هل أنت معدم تحتاج إلى عمل لكسب رزقك؟ إن كان الجواب “نعم”، فأنت غير مؤهل لأن تصبح كاتبا، وإن بدأت فسعيُك مآله الفشل. تلك هي المخاطر التي يحذّر منها أحد كبار النقاد الإنجليز سيريل كونولي في كتاب مثير.
جرت العادة أن يضع النقاد أو الكتاب المتمرسون مصنفات ينصحون فيها ذوي المواهب الناشئة بالخطوات الواجب اتباعها لا لكتابة نص جيّد فحسب، وإنما أيضا للسير في مجال الخلق بقدم ثابتة لا يعروها تعثر أو عرج، على غرار النمساوي راينر ماريا ريلكه في “رسائل إلى شاعر شابّ”، والهايتي داني لافيريير في “يوميات كاتب في بيجاما”، والأيرلندي كولوم ماكين في “رسائل إلى كاتب شاب”، والأميركي جون غاردنر في “فن التخييل، ملاحظات عملية للكتاب الشبان”، ولكن من النادر أن يتناول ناقدٌ المسألة من زاوية أخرى، أي زاوية الفشل، لا النجاح، كما فعل سيريل كونولي (1903 – 1974) أشهر ناقد إنجليزي ما بين ثلاثينات القرن الماضي وسبعيناته.
في كتاب “أعداء الوعد” الذي نشره عام 1938، وصدرت ترجمته الفرنسية مرارا عن دور نشر مختلفة، آخرها طبعة عن “الآداب الجميلة”، ولكن بعنوان مثير “ما ينبغي فعله كي يكفّ المرء عن أن يكون كاتبا”، يشنّ كونولي حربا على ما أسماه “طفيليات النبوغ” ويعدّد الآفات التي تتهدّد الكتاب جميعا، الشبان منهم والمتمرسين، فما من أحد في رأيه بمَنْجى منها.
أربعة أخطار

سيريل كونولي يخص الرّجل وحده بملاحظاته وتحذيراته، ولا يأتي على ذكر المرأة الكاتبة، والحال أن ظروفها أعسر
أراد كونولي من كتابه أن يكون دروسا في فن الكتابة، ولكن بالتركيز على الفخاخ التي ينبغي الوقوع فيها إذا أراد الشابّ أن يقتل موهبته، ويفقد الواعِد وعده، وينقلب النجاح إلى إخفاق.
الطريف أن تلك الفخاخ ليست كلّها على صلة مباشرة بعملية الخلق، بل إن أكثرها ناتج عن الأجواء الحافّة، التي يمكن أن تكون حجر عثرة في طريق كل ذي موهبة، لكونها تلهيه عن تخصيص مداركه وملكاته للإبداع وحده، وتشتت أفكاره، وتدفعه إلى إرجاء عمل اليوم إلى الغد، فيخفت الحماس والتوهّج، وينضب الدّفق الإبداعي.
وكان مارسيل بروست قد حذّر من مثل هذه المعوقات في رواية “في البحث عن الزمن الضّائع”، حيث عدّد هو أيضا الأنشطة الاجتماعية التي تُبعد الكاتب الناشئ عن تحقيق ما يصبو إليه، كالمآدب، والواجبات الاجتماعية، والعلاقات العاطفية والصداقة، ولكنه استطاع بنبوغه أن يحوّل الحديث عن تلك المشاغل التي نبّه منها إلى عمل فني متميّز، وهذا ليس متوافرا لكل شابّ.
أوّل خطر يحذّر منه كونولي الكاتبَ الشابَّ هو البحث عن أسلوب خاص، لأن الأسلوب في نظره نوعان: الأسلوب المنمّق الذي يكتنز التكثيف والإيحاء والترميز كما هو الشأن عند هنري جيمس ومارسيل بروست وجون راسكن، والأسلوب اليومي على غرار أسلوب هيمنغواي أو هنري ميلر وسواهما.
وفي رأيه ألا سبيل لتفضيل أسلوب على آخر بكيفية مطلقة، لأن لكل منها إيجابياته وسلبياته، والحلّ أن يحسن الكاتب الاختيار في الظرف المناسب، لأنّ لكل مقام مقالا، ولأن العمل الإبداعي يفرض في الغالب أسلوبه، فلا يمكن أن نصور أحداثا في حيّ شعبيّ أبطالها زعران ولصوص ومنحرفون بلغة أثيلة، وأسلوب تقليدي، ومفردات قاموسية محض.
والخطر الثاني هو الفقر، فالنابغ المعدم سوف يُضطر إلى مزاولة ما أسماه كونولي “الأعمال الغذائية”، أي الكتابة لتأمين ضرورات الحياة، كالكتابة في الصحف والمجلات مثلا. وكونولي لا يقلل من شأن الصحافة في حدّ ذاتها، ولكن يشير إلى أن إيقاعها يختلف عن إيقاع الأدب، وأن من تضطره الحياة إلى مِراسها سوف يفقد الوقت اللازم لكتابة روايته أو مسرحيته وأشعاره.
أما الخطر الثالث فهو النشاط السياسي وعواقبه المحتملة في حالي النجاح أو الإخفاق على حدّ سواء. فإن نجح الكاتب تنكّر للغته وأسلوبه وصار يلقي الكلام على عواهنه، لأن الخطابة فن لا يتقنه كل راغب، وسوف يجد نفسه مرغَمًا على الاستعاضة عن صدقية القلم بحيل المنبر. وإن أخفق في مسعاه السياسي، سعى إلى نسيان خيبته بالخمر والمخدّرات والعيش في المنفى، وفي أحسن الأحوال بأحلام اليقظة، التي لها شبه مخادع بآليات الخيال البنّاء، فيظل يقدّم ويؤخر طمعا في تدارك خيباته، وينسى أنه كان كاتبا واعِدا، تنبأ له بعضهم بمستقبل زاهر.
والخطر الرابع نجاح عمل أوّل، وحصول صاحبه على مكاسب قد تُطمعه في المزيد، فينساق وراء الكمّ، ويهمل الكيف، فإذا كل ما ينتجه لا يرقى إلى العمل الذي لفت نحوه انتباه النقاد والقراء، وإذا هو يُخيّب الجميع، بدءا بنفسه.
خيانة الموهبة

عدة أنشطة تُبعد الكاتب عن تحقيق ما يصبو إليه، كالمآدب، والواجبات الاجتماعية، والعلاقات العاطفية والصداقة
يمضي كونولي في تعداد كلّ الأنشطة التي تحوّل الكاتب عن غايته كالرغبة في الترقي الاجتماعي، والجنس، ومخالطة الأصدقاء، والحياة العائلية، وخاصة عربة طفل في البهو، التي يعتبرها من ألدّ أعداء الكاتب، وفيها إشارة إلى الالتزامات الأسرية التي يفرضها الأطفال على ربّ العائلة، وفقدان الهدوء الذي يحتاج إليه إذا همّ بالكتابة.
وكونولي يخص الرّجل وحده بملاحظاته وتحذيراته، ولا يأتي على ذكر المرأة الكاتبة، والحال أن ظروفها أعسر، فهي لا تعتني بعربة طفلها فقط، بل بالبيت وأهله، بمن فيهم الزوج. وحسبنا أن نعيد قراءة كتاب فرجينيا وولف “غرفة مستقلة” أو “غرفة تخص المرأة وحدها”، لنفهم ضآلة عدد الكاتبات عبر التاريخ، قياسا بعدد الكتاب، وقلة حيلة المرأة الطامحة إلى الكتابة إذا لم تكن لها غرفة خاصة ومورد رزق خاص فضلا عن متّسع من الوقت.
ولعلّ أخطر العقبات جميعا، ممّا لم يرد ذكره في كتاب كونولي، ما أورده هنري ميلر في رواية “مدار السرطان”، عن شخص غريب الأطوار يدعى فان نوردن، كان يريد أن يكتب، ولكنه يودّ قبل ذلك أن يقرأ كل ما كُتب، كي لا يكرّر ما سبق أن تناوله غيره، وبدل أن يُقبل على إنجاز مشروعه، راح يقرأ للكتّاب الواحد بعد الآخر ويبدي رأيه فيهم، باحتقار في الغالب، لكونهم لم يلبّوا انتظاره ولم يبلغوا النقطة – الذروة – التي حدّدها بنفسه لنفسه، وكأنه أمام رفّ كبير من كتب تحمل اسمه، ناسيا أنه لم يكتب بعد فصلا واحدا. فإذا هو كبطل حكاية “النّاسك والجرة” في كليلة ودمنة.
ولئن ادّعى بعضهم بأن تصنيف الكتاب مردّه إلى أن كونولي نفسه كان كاتبا فاشلا، فإن له الفضل على الأقل في تحذير ذوي المواهب مما حاق به، لأسباب كثيرة، لخّصها في كتابه هذا دون أن ينسبها إلى نفسه، وأكّد أن خيانة الموهبة جريمة، حيث كتب يقول “إن الجريمة الحقّ هي أن نُفلت من موهبتنا، ونجهض ذلك الحصاد الذي ينبغي أن يكون، عند بلوغه النضج، استجابة للمتطلبات التي ينتظرها المجتمع من كتّابه”.
وعلى رأي إبراهيم طوقان في معارضته لشوقي، نقول “يَا مَنْ يُرِيدُ الانْتِحَارَ وَجَدْتـهُ / إِنَّ الْمُؤلّف لا يَعِيشُ طَويلا”، ونضيف مستدركين:.. إذا لم يتَوقّ تلك المخاطر التي قد تحكم على موهبته بخبوّ توهّجها، قبل انطفائها تماما.