الفرنكوفونية في تونس أمام تحدي استعادة بريقها

تُحضر تونس لقمة الفرنكوفونية المقررة في نوفمبر المقبل وسط تحديات تواجهها اللغة الفرنسية والفرنكوفونية عموما في البلاد بسبب تراجعها لأسباب منها السياسية المرتبطة بمواقف من باريس وإرثها في البلاد، وأخرى تعود إلى تراكمات تاريخية.
تونس - تواجه الفرنكوفونية في تونس مستقبلا يكتنفه الكثير من الغموض، ففيما تستعد جزيرة جربة لاحتضان القمة الفرنكوفونية في نوفمبر المقبل تتزايد الانتقادات لتراجع اللغة الفرنسية في البلاد وهو تراجع يثير مخاوف البعض من الفاعلين باعتبار حرصهم على الإلمام بالفرنكوفونية بما تحمله من أبعاد ثقافية وفكرية وسياسية، فيما يهلل آخرون لذلك حيث يرون أن الفرنكوفونية لا تمثل سوى أداة استعمارية جديدة تنفذ بها باريس إلى مستعمراتها القديمة.
وهناك العديد من العوامل تقف وراء تراجع اللغة الفرنسية في تونس يبقى أهمها حملة التعريب التي انطلقت منذ السبعينات عندما شقت الخلافات نظام الزعيم الحبيب بورقيبة آنذاك بين شقين، الأول يمثله الرئيس بورقيبة ومحمود المسعدي الذي شغل آنذاك حقيبة وزارة التربية القومية ويدافع بشدة عن ثنائية اللغة، والثاني يمثله الأمين الشابي وهو أول وزير تربية تونسي بعد استقلال البلاد وعُرف بتبنيه تعريب المناهج التعليمية في البلاد وهو هدف لم يبلغه إلا عند وصول محمد مزالي إلى شغل حقيبة وزارة التربية في 1969.
بعد انتفاضة 2011 التي أطاحت بالرئيس بن علي خرجت السجالات بشأن الفرنكوفونية بقوة إلى العلن حتى أن سياسيين فاعلين دعوا في وقت سابق إلى مقاطعة الفرنسية وعدم تنظيم القمة الفرنكوفونية
لكن هذه الحملة رافقها عامل آخر وهي السجالات التي ما انفكت تظهر في الفضاء العام في تونس بين فريقين الأول من الفرنكفونيين والثاني يمثله المناهضون لفرنسا والذين يتخذون موقفا سياسيا بامتياز من اللغة الفرنسية التي يعتبرونها شكلا جديدا من أشكال الاستعمار.
وبعد انتفاضة الـ14 من يناير 2011 التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي خرجت تلك السجالات بقوة إلى العلن حتى أن سياسيين فاعلين دعوا في وقت سابق إلى مقاطعة الفرنسية وكذلك عدم تنظيم القمة الفرنكوفونية التي جرى تأجيلها مرتين بسبب فايروس كورونا المستجد.
وسمحت حالة الانفتاح التي أعقبت أحداث الـ14 من يناير بنفاذ لغات أخرى بقوة إلى تونس على غرار التركية التي باتت تمثلها مراكز ثقافية ونواد تربوية وغيرها ما أضافها إلى لغة أخرى تزاحم الفرنسية وهي الإنجليزية.
موقف سياسي من الفرنسية
بالرغم من أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي أسس الجمهورية التونسية بعد الاستقلال سنة 1956 كان من بين مؤسسي المنظمة الفرنكوفونية سنة 1970 إلى جانب كل من الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور وزعيم كمبوديا نورودوم سيهانوك إلا أن تلك المنظمة لا يزال يُنظر إليها على أنها أداة استعمارية.
وفي مواجهة الحملة الفرنسية على الإسلام السياسي لم يتردد سياسيون تونسيون معروفون بقربهم من التيار الإسلامي من الدعوة إلى ضرورة مقاطعة تلك المنظمة التي تمثل وفق رؤية هؤلاء مجرد أداة استعمارية، علاوة على ضرورة الامتناع عن تنظيم هذه القمة الفرنكوفونية التي توافق اليوبيل الذهبي للمنظمة (50 عاما).
وترى أوساط تونسية أن تلك الدعوات هي مجرد موقف سياسي لاعقلاني من الفرنكوفونية التي لا تتجسد فقط في بعدها اللغوي في الواقع بل تتعدى ذلك إلى الأبعاد الثقافية والاقتصادية والسياسية.
وفي وقت سابق دعا النائب ياسين العياري عن حزب أمل وعمل إلى مقاطعة المنظمة وكذلك القمة المقرر تنظيمها في جزيرة جربة بعد أن كانت في العاصمة التونسية.

ناجي جلول: الإنجليزية تتفوق على الفرنسية لذلك ضروري أن تتبوأ المرتبة الثانية
وقال العياري “هذه القمة ومن ورائها المنظمة التي تشمل أساسا فرنسا ومستعمراتها السابقة تسعى لتدعيم القيم الفرنسية واللغة الفرنسية عبر ‘الضغط/التعاون’ السياسي والدراسي والثقافي والاقتصادي”.
وأضاف النائب المعروف بقربه من الأوساط الإسلامية “أعتقد في وضع تسمح فيه هذه الثقافة باحتقار معتقداتنا والسخرية منها، والتضييق على الثقافات المختلفة على أرضها لأسباب سياسية انتخابية، بعيدا عن الاحترام المتبادل، يصبح من الوقاحة قبول هذه القمة على أرض تونس”.
وترى أوساط سياسية تونسية أن اللغة الفرنسية تتراجع حتى عالميا لصالح اللغة الإنجليزية لكن هذا لا يعني التسليم بمغادرة تونس للمنظمة الفرنكوفونية ولا لمقاطعة الفرنسية.
وقال وزير التربية الأسبق ناجي جلول “إن مثل هذه الدعوات هي في الواقع لاعقلانية، نعم صحيح الفرنسية تتراجع بشدة في تونس لصالح الإنجليزية ويكفي أن نرى اهتمام الشباب بها لكي ندرك ذلك، الشباب الذي عندما يصل إلى الإنترنت واليوتيوب وغيره لا يجد سوى اللغة الإنجليزية لكن هذا لا يعني مغادرة المنظمة أو مقاطعة الفرنسية”.
وأضاف جلول في تصريح لـ”العرب” أن “الفرنسية تبقى مع ذلك مهمة لأنها اللغة الثانية أفريقيا، المنطق يقول إنه في مناهجنا ينبغي أن تتراجع اللغة الفرنسية إلى المرتبة الثالثة باعتبار أن الإنجليزية باتت تتفوق عليها، لكن هذا لا يعني تسميم علاقاتنا بفرنسا، لدينا علاقات تاريخية مع الفرنكوفونية، لا ينبغي تحويل الفرنكوفونية إلى موقف سياسي لأنه وبكل أسف الآن الموقف منها؛ مع أو ضد، هو موقف سياسي”.
وأوضح “لدينا علاقات تاريخية بمنظمة الفرنكوفونية لكن لنا الحق أن نختار لغة التدريس الثانية سواء الإنجليزية أو الفرنسية دون تشنج الهويات كما يقول أحمد ونيس”.
وبصرف النظر عمّا يقوله السياسيون في تونس خاصة بعد أحداث الـ14 من يناير التي أفرزت طبقة سياسية لا تستجيب لتطلعات التونسيين ولم تنجح سوى في تعميق انقساماتهم، فإن تراجع الفرنكوفونية في تونس رغم وجود نواد ثقافية تمثلها وغيرها يعود إلى تراكمات تاريخية.
تراكمات تاريخية

ويقول الأستاذ الجامعي والباحث في الاتصال والعلاقات صلاح الدين الدريدي إن “تراجع الفرنكوفونية ليس وليد اللحظة، بل هو تراجع بدأ منذ الثمانينات عندما تمت مباشرة حركة التعريب التي كان لها مبرراتها التاريخية والجيوستراتيجية”.
ويوضح الدريدي في تصريح لـ “العرب” أنه “بعد ذلك تراكمت العديد من العوامل التاريخية التي امتزجت بالمواقف السياسية، فحركة النهضة على سبيل المثال عملت على تشويه الفرنسية لضرب بورقيبة وإرثه وفكره”.

أحمد ونيس: علينا تقوية الشراكة مع الفرنكوفونية لأنها أدت دورا عظيما في تطورنا
وفي وقت سابق وجه الرئيس التونسي قيس سعيد اتهامات لأطراف لم يسمّها بأنها تسعى إلى تعطيل جهود بلاده لاحتضان القمة الفرنكوفونية وهو ما لم ينفه وزير الخارجية عثمان الجرندي في جلسة استماع له في مجلس النواب (البرلمان) الاثنين.
وأكد صلاح الدين الدريدي أنه “على صعيد آخر يجب على فرنسا عبر منتداها الفكري والثقافي أن تعي التحولات اللغوية والفكرية والسياسية التي طرأت على الساحة التونسية” مُضيفا “اللغة الفرنسية أصبحت لغة تتداولها فئة قليلة من نخبة المجتمع بعد أن كانت لغة شعبية متاحة أمام سائر فئات المجتمع”.
وفي وقت سابق وجهت الأستاذة الجامعية سولى الشرفي انتقادات إلى سلطات بلادها على خلفية تدريس اللغة التركية في تونس وهو خيار مضت فيه السلطات التونسية منذ سنوات.
وقالت الشرفي في تدوينة بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، “تركيا فيها 80 مليون ساكن ولغتها ميتة، يعني القليل من التراث الذي لدى تركيا انتهى، وتركيا كلها خُلقت البارحة ويقومون بتدريس لغتها مادة اختيارية؟ خيارات سياسية سيئة”.
في مواجهة هذا التراجع والتراكمات التي باتت تهدد الفرنكوفونية في تونس، تعول فرنسا جديا على قمة جربة في نوفمبر المقبل لتحقيق مكاسب يبقى أولها استعادة الفرنسية لمكانتها في البلاد.
قمة جربة

صلاح الدين الدريدي: لا مستقبل للفرنكوفونية بتونس، لقد بدأت تتراجع في الثمانينات
لكن الاهتمام ليس فرنسيا فحسب إذ تشجع أوساط سياسية تونسية على استضافة تونس لقمة الفرنكوفونية نظرا لثقلها في منظمة الفرنكوفونية.
وقال وزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس إن “تونس جديرة باحتضان قمة في حجم القمة الفرنكوفونية والخيار في المبادرة بتبني الفرنكوفونية بقطع النظر عن تدخل أيّ كان”.
وأضاف ونيس لـ”العرب” حول مسألة احتضان تونس للقمة الفرنكوفونية “هي مبادرة تونسية اتخذها رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة والنخبة التونسية في ذلك الوقت، لم يكن بورقيبة معزولا عند تبنيه لهذا الخيار، لقد كان محاطا بعدد واسع من المثقفين التونسيين الذين دعموا هذه المبادرة”.
ودعا ونيس تونس إلى مواصلة تبني الفرنكوفونية قائلا “أعتقد أن تونس صحيحة وجديرة بالاهتمام ومواصلة تبني الفرنكوفونية، على التونسيين تقوية الشراكة مع الفرنكوفونية لأنها أدت دورا عظيما في تطور المجتمع التونسي وفي تحديثه”.
وعادة ما يواجه التونسيون الفرنكفونيون حملات تنمر تصل حد وصفهم بـ”أيتام فرنسا” على خلفية تمسكهم باللغة الفرنسية التي يعتبرونها إرثا استعماريا وهو ما يستهجنه أحمد ونيس.
وقال “هذا عمى ثقافي، لأنه من مصلحة أيّ شعب أن يكتسب لغتين، الشعب المنغلق ومهما بلغ من تطور فإنه لن ينجح في التحديات التي يواجهها”.
وكانت الحكومة التونسية قد سرعت من وتيرة تحضيراتها لقمة الفرنكوفونية حيث كشف عثمان الجرندي الاثنين عن زيارات أجرتها وفود للاطلاع على التحضيرات الجارية لاحتضان جزيرة جربة لهذا الحدث.
وقال الجرندي إن “التحضيرات على قدم وساق وعلى مدار الساعة لإنجاح هذا الحدث، وهناك وفود زارت جزيرة جربة من أجل معاينة الأطر المتوفرة والوقوف على كل الاستعدادات”.