العمل الفني ليس كواليس لطمر الحقائق

تستغل الكثير من الروايات التاريخية أو السيرية أحداثها بالاعتماد على وقائع حقيقية، والتي يلعب فيها الخيال دور إعادة بناء التاريخ، والنظر إلى الأمور من زوايا أخرى مهملة، لكن لعبة المزج بين الواقعي والخيالي في روايات من هذا النوع ليست بالسهلة، إذ قد تسقط الروائي في مزالق التحريف أو الاحتيال والتزوير، ليبرر رأيا ما خاصا، ولا ينجح حينها التبرير الفني في إسقاط هذه التهم عنه.
لمْ يؤذ شيعةُ العراق أنفسهم في التاريخ كما آذوها اعتبارا من يوم 10 أبريل عام 2003 وحتى يومنا هذا، ذلك ما يريد قوله كنعان مكية، المهندس المعماري والكاتب والسياسي، الذي نشر أشهر كتبه في تفكيك الدولة المنهارة التي حكمها صدام حسين “جمهورية الخوف”، “القسوة والصمت”، باسم سمير الخليل لينشر اليوم روايته المثيرة للجدل “الفتنة”.
في روايته يجسد مكية شعوره المرير هذا بمحاولة الاقتراب وثائقيا ومتخيلا من تقاطع التوجهات والافتراس البيني للفئات الشيعية المسلحة التي نشأت أو نشطت بعد احتلال العراق عقب تراكم الظلم والقمع وبيئة ومخلفات الحروب.
تضم الرواية شخصيات شيعية من مختلف الأنماط، فمنهم شيعة الخارج المنقسمون بين من يمثلهم في الرواية “عصابة الثلاثة عشر” حسب التوصيف الذي يورده مكية على لسان مناوئيهم من جيش الإمام، ويقصد السياسيين الشيعة الذين شاركوا بمجلس الحكم، تحت سلطة الأميركان وتنازلوا عن دم أقرب أصدقائهم السيد مجيد الخوئي الذي قتل ببشاعة في ذلك اليوم، والشيعة القادمين من إيران.
ويذكر أيضا شيعة الداخل المنقسمين بدورهم إلى مُعارض للاحتلال ومتواطئ معه، والمنخرطين في حروب متعاكسة بين تحالف شيعي مع السنة -هيئة علماء المسلمين- لمقاومة الأميركان في حرب النجف، وحرب شيعية شيعية بين جيش الإمام وجيش بدر، ثم حرب سنية شيعية طاحنة أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء على الاسم والهوية.
سيرة مسلح وبلاد
يأتي الكاتب على ذكر الشيعة الذين قاوموا الاحتلال ثم انخرطوا في عمليته السياسية، وشيعة دعموا الحكومة الشيعية وهم أنفسهم عملوا ويعملون على إفشالها. بين شيعة الرحمة الذين كتبوا النظريات والفقه والفلسفات، وشيعة القسوة الذين استلموا السلطة وأفشلوا الدولة بمساعدة نماذج تشبههم من الطوائف الأخرى، لينتهي حال العراق إلى دولة محطمة فاشلة كالتي نراها اليوم.
هكذا يضع الكاتب والسياسي العراقي كنعان مكية الخطوط العامة لتجربة الشيعة السياسية ما بعد 2003 في روايته التي يتخادم فيها الخيال مع الوقائع بحبكة تبدو فخاخا من التربص لتفريغ انفعال صاخب بلغة ومسارات درامية وشخصيات مبنية كممرات معقدة بين أنقاض الخرائبْ.
تبدأ الرواية مع تساؤلات شاب شيعي منخرط في جيش الإمام الذي أسسه السيد -يسميه الكاتب هكذا في الرواية- بعد أن يُكلف بحراسة صدام حسين عند تسلمه من الأميركان وسوقه مباشرة إلى منصة الإعدام
ليلة الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 2006 في ظل جدل حول التوقيت، حيث أعدم في عيد الأضحى، الأمر الذي ينفيه من أعدموه، لأن ذلك اليوم غير معترف به من قبل الشيعة الذين عادة ما يتأخرون يوما عن السُنة في الأعياد والمناسبات الدينية، فاختاروا ليلة العيد التالية، ولكن قبل الصلاة ليبرروا شرعا بأنه لم يُعدم في العيد وإنما قبل سويعات من دخول صلاة العيد الشيعية.
تبدأ قناعات المسلح الشاب النجفي المكلف بالحراسة لذلك اليوم تهتز بفعل حوار داخلي صعب وهو يعترض على الأجواء التي صاحبت لحظات الإعدام والتعامل مع الرجل الذي قُدم كضحية وتم حرْف النظر عن جرائمه ضد البلاد وشعبها.
المؤلف يؤسس روايته على هدف محدد هو إدانة المسؤولين الذين استلموا الحكم بعد احتلال العراق وسقوط صدام
إلا أن استدراكات الشاب هذه لم تكن بتأثير مما حدث ذلك اليوم فحسب، بل يمكن القول إن المشهد أطلق العنان لتأثير متراكم من المواقف شهدها وعاش أحداثها وشخوص اختلت صورهم بعد تقصيه تواريخهم وأفعالهم، وأبرزهم عمه القيادي في جيش الإمام الذي له فضل تكليفه بهذه المهمة الحساسة، والذي رعاه بعد مقتل أبيه ليبقى مع أمه في بيتهم، أمه التي أثرت به حكمة ودليلا إلى شخصية أبيه الضابط السابق الذي هرب من حرب الـ1991 والتحق بالانتفاضة ثم أعدم بعد أن ألقي القبض عليه وهو مختبئ بصحبة رجلين تمكنا من الهرب قبل مجيء رجال أمن النظام.
أسئلة وتوقفات بقيت معلقة من ذلك اليوم 10 أبريل عام 2003 الذي شاهد فيه بمدينته النجف جثة رجل مزقتها الطعنات بالسكاكين مرمية في شارع مقابل ضريح الإمام متسائلا عن هويته دون أن يحصل على إجابة من أحد ليمضي في تعقب قصتها فتتكشف أمامه حقائقُ مفزعة تقلب قناعاته إلى اتجاهات ومتاهات شتى، لاسيما بعد أن يعرف أن هذه الجثة تعود للسيد مجيد الخوئي ابن المرجع الديني الشيعي الراحل أبوالقاسم الخوئي، والأكثر دهشة من ذلك حين يعرف أن قتلته من الشيعة بعد أن أشاعوا كونه عميلا، بل الأكثر من ذلك حين يخبره جده بأن السيد مجيد هو أحد الرجلين الذين كانا مختبئين مع أبيه وهربا قبل إلقاء القبض عليه ثم استقر مقامه في لندن، وأنهما أباه وسيد مجيد كان لهما دور في مساعدة الناس وضبط المجتمع خلال الأحداث التي جرت أيام الانتفاضة الشعبية ضد النظام عام 1991.
لكن الأبشع الذي واجهه المسلح الإمامي الشاب في هذا الملف، حين يتعقب نتائج تحقيق أجري حول الجريمة ويصلُ القاضي الذي حقق في ذلك ويعرفُ منه أن نتائج التحقيق تُحمل السيد مسؤولية القتل، وأن تدخلا من الثلاثة عشر الشيعة المشاركين في مجلس الحكم بينه وبين الأميركان لإيقاف مواجهات في النجف، دفعتْ الطرفين إلى إتلاف ملف التحقيق الأصلي واستبداله بآخر احتوى إفادات محايدة ليحمل السيد الخوئي مسؤولية مقتل نفسه بسبب خطبه وحماسه ومجيئه مع الأميركان أمام شباب مندفع متوتر، ليغلق ملف القضية مقابل وقف إطلاق النار والدخول في العملية السياسية، فيما يسردُ القاضي لبطل الرواية الشاب الذي التقاه بعد محاولات مُضنية في جلسة خاصة التفاصيل الدقيقة التي توصل إليها وتحملُ السيد مسؤولية ما جرى.
كذلك نجد ملامح من سيرة المسلح مع صديقه وابن مدينته حيدر؛ رفيقه في جيش الإمام الذي يواجه أباه القادم من إيران عضوا في جيش بدر، والمتزوج هناك دون علم زوجته، مما يصعد من غضب حيدر الذي يقف أساسا في الخندق المعادي لجيش والده في الحرب بين جيش الإمام وجيش بدر.
بعدها ينجرف حيدر في خضم الحرب الأهلية التي حدثت بعد تفجير مرقدي الإمامين في سامراء مستمرئا القتل مدافعا عن الشيعة لمنع الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها على يد السنة حسب اعتقاده، ليصبح متحكما حتى بمفارز الشرطة والجيش المرتعدة من نفوذه وقسوته بالإضافة إلى جده الشيوعي السابق وشخصية أمه الحكيمة النجفية التي فقدت زوجها -والده- وأوصلتْ رسالته التي تحكي عن أساليب التعذيب والقتل في معسكر الرضوانية والتي أرسلت في قلب قلم مفرغ من دواته إلى ابنها.
ويكتشف الابن في نهاية المطاف أقسى ما يمكن أنْ يسمعه من مفارقة، حيث أن عمه هو الذي أبلغ عن أبيه المختبئ في انتفاضة 1991 مع ابن الخوئي، المقتول بعد خمسة عشر عاما من غيبته وعودته في ذلك اليوم، وهو الحدثُ المركزي الذي تستعيده الرواية وما تلاه حتى لحظة الإعدام وما سبقها من حوار نادر بين الشاب وصدام قبل إعدامه.
سمع تبريراته واستعراض مواقفه من المحكمة عموما لاسيما القضية التي أعدم بسببها مباشرة وهي الدجيل وتحليل الحال السياسية للبلاد ورأيه بالقيادة والدولة والناس والإعدام والتعذيب الذي وصفه بعملية جراحية لتحقيق نتائج مفيدة للدولة، وكيف واجه الشهيد محمد باقر الصدر قبل أن يعدمه وكيف انتهكوا أخته وكيف قتل المعارضين بيده أو بمخططاته، وكيف يعرف كل صغيرة وكبيرة حتى اختفاء والده وإعدامه. وهي آراء حرص المؤلفُ على تمريرها ليفاجئنا بأن ذلك متخيلٌ مثل كثير من الحوادث والمواقف المتخيلة في هذه السيرة، وكأنه يُجري على مشارف نهايتها حسابات ختامية بما هو واقعي وما هو منقول أو مجردُ تسريبات وما هو متخيل فيها.
جناية تاريخية
إذا المؤلف يؤسس روايته على هدف محدد هو إدانة المسؤولين الذين استلموا الحكم بعد احتلال العراق وسقوط صدام وتحديدا المسؤولين الشيعة الذين تحاربوا وأضعفوا أنفسهم والبلد معهم، متخذا من الروايات
التي نُسجت عن اغتيال الشهيد مجيد الخوئي مرتكزا قصصيا وتحقيقيا يوصله إلى التلميح بل اليقين بمسؤولية السيد عن مقتله استنادا إلى بعض مصادره التي أشار إليها وأهمها شهادة الصحافي العراقي معد فياض الذي جاء برفقة سيد مجيد وشهد بعينه ما جرى ونجا من الحادث ليعود إلى لندن التي يقيم فيها ويؤلف كتابا عما رأى.
عبر هذا الإنشاء الروائي يمارس كاتب الفتنة مكرا فريدا في ترويض الواقعة للخيال والعكس، ورغم أن ذلك ليس معيبا في البناء الفني للعمل الروائي المعتاد بل يعد امتيازا من مناح ما، لكنه مع عمل يتحدثُ عن سيرة سياسية تهم بلدا وشخصيات يراها متورطة بالدماء وتخريب البلد وإضاعة مستقبل أمة، ثم يؤسسُ في النهاية موقفا سياسيا محددا بناء على ما ورد في روايته، لا يُمكنُ اعتبارُه نسجا وخلْقا بقدْر ما هو احتيال على الخيال لتغذية انفعال شخصي مسبق من ظاهرة سياسية.
الاحتيال هنا يحط كثيرا من قيمة الوثيقة بوصفها دليلا صريحا على جريمة أو جرائم عليها شهود مباشرون كما يوردُ الكاتبُ ذلك في ذيل روايته. فكيف يمكن اعتمادُها براءة أو اعتذارا أو موضع إدانة أو شكوى قضائية وهي وقائعُ مشغولة بالخيال، وخيال يملأ الفراغات فحسب، لا تعرفُ هل أنه من جنس الأحداث أم أنها من بُناته.
واعتراف الكاتب بأنه افترض حوار صدام قبل إعدامه مع حرسه، وأنه استعان بحوارات من ديستوفيسكي ومن عمل عن هتلر، ومن مصادر ودراسات شتى وردتْ في مواقع التواصل الاجتماعي حول الميليشيات الشيعية والسنية التي كانت طرفا في الحرب الأهلية.
كما أقر الكاتب بأن تأليفه للحوارات حول ضروة الانتقام الوجودي من السنة على لسان حيدر الذي أصبح قاتلا محترفا وقائدا وصاحب قرار تطيعه الأجهزةُ الأمنية، وعمليات تصفيات البعثيين السابقين من قبل مسلحين في بدر واستشراء النفوذ الإيراني لتعقب الطيارين السابقين، ومعلومات لا حاجة لروائي أن يبتكرها لأنها متداولة بين الحقيقة والمبالغة، غير أنها تردُ على لسان شخص يدعي معرفته بجميع من حكموا العراق، وأنه يريد التبرؤ من أخطائهم وأنه يستند إلى معلومات دقيقة من أشخاص لكتابة روايته أحدهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي هو الآن رئيسُ للوزراء في العراق، أمر يثير الدهشة.
ارتكب مكية جناية مركبة في عمله هذا، ذلك أنه كتب موقفه السياسي كرواية اعتمدت أحداثا أصدر أحكاما مسبقة عليها، وكان يُفترض أنْ يكتبها كبيان سياسي أو سيرة موثقة ويوقع عليها دون الحاجة إلى كتابتها روائيا بهذا المكر والالتباس المفضوح، فالعمل الفني ليس كواليس لطمر الحقائق بل إشراقات مضيئة لإنتاج المعرفة والجمال من خلال توظيف الواقعة للخيال المبدع، وليس الاحتيال على الخيال لملء الفراغات والتهرب من قول ما يلزم قوله.