العصور المظلمة

الحكومات وُجدت لتوفير أفضل بيئة ممكنة للأفراد ولتحقيق أفضل النتائج الممكنة لهم لا أن يعيش أفرادها عبيدا في ظل نظام عالمي جديد يعظم النخبة ويعززها على حساب الأغلبية المسحوقة.
الجمعة 2024/06/14
كيف سيذكرنا التاريخ بعد ألف عام

هل الماضي لديه القدرة على إعادة تجسيد ذاته في الحاضر؟ وبكلمات أخرى، هل التاريخ يعيد نفسه؟ نعم.

هل يدور الإنسان في ذات الحلقات وذات الأنماط ؟ يدور.

هل الفترات الزمنية التي كانت تصاعدت بها الأحزاب الفاشية المتطرفة تعود إلى الواجهة؟ يبدو ذلك.

وهل العالم يكرر ذاته خلال عقود طويلة بإعادة تدوير ذات الصراعات بين ذات الأحلاف والأطراف التي عهدتها البشرية؟ يبدو أيضا ذلك.

مثلا، روسيا تحاول إعادة أمجاد إمبراطوريتها واتحادها بوضع يدها على مقاطعاتها القديمة وإبقاء سيطرتها عليها، فترى طيف الاتحاد السوفييتي وأطلاله باقية وتتمدد.

وهناك مخاوف من سلب الكثير من المجتمعات البشرية خصوصية هُويتها وحقها في تقرير مصيرها بسبب الحلم الروسي بإعادة أمجاد قوة قطبه.

◄ يجب أن تنبثق في الدول أحزاب جديدة وأفكار جديدة تواكب التطور الذي يحرزه الإنسان.. لا أن يعيش في سراديب البيروقراطية وفي ظل شبح أحزاب وقضايا وأفكار قديمة

روسيا التي ترفض انضمام جورجيا للاتحاد الأوروبي، وتحاول بكل ما لديها من أدوات وقوة سلب جورجيا حق تقرير مصيرها.

روسيا التي تتدخل في شؤون أرمينيا وغيرها الكثير من المناطق التي لازالت تعتبرها جزءا من أمنها القومي وبقائها حتى بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفييتي.

وروسيا التي تصر أن أوكرانيا مجرد حديقة خلفية تابعة لها، وجزء من امتداد أراضيها..

وهو ما يقودنا إلى الحرب الباردة المستمرة بين روسيا والولايات المتحدة التي تلتهب أحيانا لكن في مسارح أطراف ثالثة بعيدة عن أراضي كليهما – قدر المستطاع – فقواعد الحرب بينهما مازالت واضحة وهي عدم الاحتكاك المباشر بينهما.

الولايات المتحدة التي قررت إنهاء الحرب العالمية الثانية بإلقاء قنبلة ذرية على اليابان، ونتجت عنها كارثة إنسانية تجعلنا نفكر.. هل ما حدث في هيروشيما وناجازاكي قد يتكرر؟ يتكرر.

وبالفعل قد تحقق.. الولايات المتحدة لم تجد من يردعها، لذا استمرت في نهجها حتى قضت على دول ومجتمعات كاملة.

من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين المنهوبة المتشظية إلى لبنان وسوريا وأوكرانيا ثم ليبيا والسودان واليمن.. والأمثلة كثيرة.

الولايات المتحدة ترمي “قنابل ذرية” تنكل بالبنية الثقافية والفكرية للمجتمعات، تدمرها أخلاقيا وقيميا ثم تستنزفها بشريا وتستنزف بنيتها التحتية ماديا.

تعزز الصراع بحجة الإرهاب بعكس تصريحاتها الداعية للسلام.

وتترك الدول منكوبة وحيدة تحتاج إلى معجزات وتتكاثف الجهود لإعادة إحيائها.. لكن من صنع الإرهاب وعززه؟

يقول ترامب إن الدولة العميقة في الولايات المتحدة ورؤساء أميركيين سابقين هم الجهات التي دعمت واستثمرت وأسست التيارات المتطرفة الإرهابية من القاعدة وداعش.

كلا القطبين يحاول فرض قوانينه على العالم وبسط سيطرته بأساليبه المختلفة.. وهذا يوصلنا إلى سؤال: كيف سيذكرنا التاريخ؟

هل بعد ألف عام مثلا سيتم ذكر عصرنا وعهدنا بوصفه “عصرا مظلما”؟ على غرار ما يتم وصف حقب من العصور والعهود البشرية السابقة؟ ربما..

◄ كان من المفترض أن يساعدنا هذا التطور في القضاء على آفة التصحر مثلا، ولإيجاد أنماط حياة صحية أكثر، لا أن تكون النتيجة مجاعات وانعدم أمن غذائي، وكوليرا واستبدال المنازل بالركام

وهل نحن فعلا نعيش واحدة من أسوء المراحل البشرية روحانيا فكريا وقيميا في ظل الحروب المنتشرة والمتوسعة والأمراض المتفاقمة والمجاعات المتزايدة والتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والفكرية والاجتماعية المستمرة؟

 في ظل قارات ودول محرومة من مواردها ورزقها يهاجر أبناؤها إلى بلاد “السارقين” و”المستنزفين” و”المستغلين” لها، ويحاولون إيجاد الفتات بما يكفي لشبه صمود الإنسان؟

وفي محاولة لإنعاش قارات عجوز، تذبل دول وحضارات وثقافات أخرى في ظلامها ووهنها وانفلاتها.

نعيد ونسأل: هل نحن في قاع العصور روحانيا وفلسفيا في ظل شبه انعدام للتنوع الفكري وتراجع الإنتاج الأدبي والفلسفي وصمت العصف الذهني وتعارض القيم الجمعية للمجتمعات مع أفعالها وفي ظل تطرف الأديان أو انعدامها؟

الإنسان لا يتعلم من التاريخ وجل ما يفعله هو تكرار الصدمات والعقد النفسية والاجتماعية من جيل إلى آخر. حكم على نفسه بإعادة أنماط من الصدمات من خلال المحافظة على برمجة فكرية هشة وبرمجة ظلامية قائمة على الخوف والندرة والكره والعنصرية والقهر والاستبداد، حتى ضاعت هُوية الإنسان وبوصلته وتم إضعاف وتهميش بصيرته وقدراته.

ما لا يمكن لعقل الإنسان فهمه وتقبله أننا نعيش في 2024، وكان على الإنسان كسر لعنة الظلام وليس تعظيمها. كان عليه أن يكون متنورا وواعيا أكثر وأن يتوقف عن تقديم البشر كقرابين.

في 2024 حيث من المفترض أن تنعم المجتمعات البشرية بإيجابيات ونتائج التطور العلمي والتكنولوجي وتطور الأدوات والمعرفة، مازلنا نعاني مآسي كثيرة.

علينا أن نبني مزيدا من الصروح والمنازل المريحة لتكون ملهمة للأجيال القادمة، وأن نشيد مزيدا من عجائب الدنيا، وليس مزيدا من خيام تعجز عن إيواء قطة.

 يجب أن ينعكس ذلك على واقعنا ببناء مدن متطورة مريحة تخدم أكبر عدد ممكن من البشر، وأن يصل بنا إلى فلسفة حياة أفضل، وخلاصة فكرية قيمية شاسعة واسعة بشكل أكبر.

كان على الإنسان أن يتبنى هرما أخلاقيا قيميا يساعد على تعزيز الاستقرار والسلام والتناغم وليس المزيد من العنصرية والكره والغضب والاحتقان ما يولد انفجارا في المجتمعات.

◄ هناك مخاوف من سلب الكثير من المجتمعات البشرية خصوصية هُويتها وحقها في تقرير مصيرها بسبب الحلم الروسي بإعادة أمجاد قوة قطبه.

لكن، ما يحدث اليوم هو عكس ذلك تماما.. ما يحدث إبادة هو لمجتمعات كاملة يصعب احتواء أضرارها أو إيقافها. جل ما يحدث هو تفكيك المجتمعات، ونشر الفوضى والصراعات، وتعزيز الكره والعنصرية والظلام.

كان من المفترض أن يساعدنا هذا التطور في القضاء على آفة التصحر مثلا، ولإيجاد أنماط حياة صحية أكثر، لا أن تكون النتيجة مجاعات وانعدم أمن غذائي، وكوليرا واستبدال المنازل بالركام. 

كان على الإنسان أن يخرج بمفاهيم جديدة متطورة حول المواطنة، والدولة والديمقراطية والحريات والمشاركة السياسية وتطوير الدساتير والقوانين بما يعود بالنفع على أكبر قدر ممكن من الأفراد بإيجاد سبل أفضل لتحقيق العدالة.

كان من المفترض أن نساعد في بناء أجيال بعقول فذة وناضجة.. لا أجيال استهلاكية ببصيرة ضيقة وبعقول مفصولة عن الواقع.

ويجب أن تنبثق في الدول أحزاب جديدة وأفكار جديدة تواكب التطور الذي يحرزه الإنسان.. لا أن يعيش في سراديب البيروقراطية وفي ظل شبح أحزاب وقضايا وأفكار قديمة. نحن في 2024، والحكومات وُجدت لخدمة المجتمعات، لتحقيق أفضل الاحتمالات للأفراد.. لا أن يعمل المواطن لدى الحكومة وأن يعيش خائفا من النخبة السياسية والأمنية.

الحكومات وُجدت لتوفير أفضل بيئة ممكنة للأفراد ولتحقيق أفضل النتائج الممكنة لهم، لا أن يعيشوا عبيدا في ظل نظام عالمي جديد يعظم النخبة ويعززها على حساب الأغلبية المسحوقة غير القادرة على تقرير مصيرها.

9