العزلة والملل يتجسّدان في لوحة ذاتية للفنان العراقي سيروان بران

تعدّدت الأعمال التشكيلية التي تعبّر عن العزلة والملل، والتي تلقّاها الكثيرون كنوع من التظهير لكآبة عميقة تحتاج إلى علاج. إلّا أن هذه الأعمال باتت اليوم تعبّر عن واقع استحال إلى واقع وجودي لم يتمرّس الكثيرون على مواجهته. لكن الفنان التشكيلي العراقي سيروان بران أعلن عبر لوحة ذاتية عن تمرّسه بالملل وسيطرته عليه.
كُرّس في جميع أنحاء العالم منذ ما يقارب السنة منطق ومُصطلح “التباعد الاجتماعي” ليبدو في عيون الناس هُجنة لم تعرفها البشرية من قبل. هُجنة صارت لها الآن قوانينها الخاصة، ولاسيما إن كان هذا التباعد الاجتماعي يعني بشكل حرفي، الحجر المنزلي التام والتخلّف الكُليّ عن ملاقاة الآخرين. غير أن هذه “الهُجنة الوبائية” في حدّ ذاتها لم تكن دائما ذات معان سلبية في لوحات الفنانين التشكيليين، وهي حتما ليست بحالة معيشية جديدة أو إضافة مُعاصرة تجدر محاصرتها وتفكيكها أفضل تفكيك.
اليوم، جاء الزمن لكي يُنصف فيه الفنان التشكيلي حتى لا تعود أعماله الفنية المُتحدّثة عن العزلة والوحدة مجرد دلالات عن حالات مرضية مُستفحلة تجب مُعالجتها وحماية المجتمع من آثارها وتداعياتها. وقد قدّم ولا يزال الفنان التشكيلي الشرق أوسطي كغيره من الفنانين الغربيين لوحات مؤثّرة تنبض بمعاني العزلة والقلق الوجودي.
لوحات لم تحِد عن أجواء فنية مُكرّسة وإن اختلفت في الأساليب التعبيرية والأهمية الفنية والتقنية. ونستحضر من هؤلاء الفنانين التشكيليين العرب الذين اشتغلوا على هذه الثيمة، على سبيل الذكر لا الحصر، الفنان جوان خلف والفنان أنس سلامة والفنانة فلاح الصعيدي والفنان جوزيف حرب والفنان زياد غازي والفنانة عبير بخاري والفنان تامر ملّاك.
وفي هذا السياق أول عمل فني قد يخطر على البال، هو ما قدّمه مؤخرا الفنان التشكيلي العراقي سيروان بران. لوحة تغلب عليها تدرجات اللون البني رسم فيها نفسه جالسا في محترفه الفني في خضم موجة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.
في اللوحة قلق وجودي؟ أجل، لكنه قلق تحت سيطرة الفنان، واستقبال لا يحتاج فيه الزائر بنظره إلى المرسم إلى تذكّر الكمامة الوقائية وما صنعت في مجتمعاتنا ولا إلى استدعاء لتعاطف معسول تجاه صورة العزلة المُجسّدة، ولا إلى التفكّر في كيفية معالجة حالة العزلة كأمر شاذ وجب الشفاء منه أو توصيفه بأنه خارج سياق الحياة العادية.
تجيء هذه اللوحة في حين تسترجع لوحات أخرى حديثة لفنانين آخرين معظم هذه الأفكار والمشاعر. ونذكر منها لوحة للفنان جوان خلف بعنوان “نوستالجيا” رسم فيها رجلا متقوقعا على أريكة، ولوحة لأنس سلامة يجلس فيها شخص على طرف سرير ناظرا أمامه باستسلام وجودي إلى دخول الوباء (أو فكرة الخوف منه) كزائر غير مدعوّ وغير مرحّب به.
يظهر الفنان العراقي بران في لوحته الذاتية متهالكا بازدراء على أرض المرسم وغير منفصل عن أجواء الغرفة، لا لونيا ولا في سياق ضربات ريشته. والأهم من ذلك كله أن لوحته تلك يمكن اعتبارها بمثابة انتقاد ساخر للكثير من النصوص التحليلية التي ذكرت أن اللوحات التي تتكلّم عن العزلة هي في حقيقتها تصوير لضرب من ضروب الجنون أو الوعكات الصحية/ النفسية.
ما ميّز هذا العمل عن سائر الأعمال الفنية التي تناولت ولا تزال تتناول بكثرة موضوع رسم الذات في إطار العزلة أن الفنان يبدو في لوحته هذه، مسيطرا بهدوء ملحوظ على ذاته وعلى حالة من الملل الذي يبدو أنه حلّ بعد “وصلة” عمل منهك على إحدى اللوحات.
كما أن مرسم الفنان ليس بمرسم عادي. إنه مرسم شكّلته مادة لونية متجانسة وفي نفس الوقت متوترة تتبعثر فيها عناصر اللوحة من كتب ورسومات وأوراق وقنينة من سائل معقم، وضعها الفنان كإمضاء يشير إلى سنة تحقيق اللوحة والمشهد المرسوم في آن واحد بمعزل عن أية رغبة في استثارة أي شعور أو تعاطف من المُشاهد، ومن الفنان ذاته.
ثمة أمر آخر لافت في لوحة الفنان العراقي هو أن ما حوله من توتر إيقاعي بتدرجات لونية متقاربة قد تحوّل من مجرد مكان إلى زمن أثّثه بران بحضوره. وليس هذا الزمن الذي تحرّر اليوم من فكرة المرضية إلّا زمن البطء والسكون الذي اعتادت مجتمعاتنا المعاصرة على الفرار والخوف منه وإدانته عبر ممارسات لا تحصى. ويصل عدد كبير من المفكرين حتى إلى ردّ الزواج والإنجاب إلى فكرة استجلاب طوفان من الانشغلات على المرء تمنعه من التفكير في ضحالة الوجود وهشاشته.
لوحة الفنان العراقي سيروان بران الذاتية تنطق بصريا بما قالته يوما المفكرة حنة أرندت “الإنسان الحديث لم يُقذف إلى العالم، بل قُذف إلى داخل نفسه”.
والفنان العراقي من مواليد بغداد 1968. حاصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة بابل، وهو عضو نقابة الفنانين العراقيين، وعضو اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية.
أقام بران العديد من المعارض الخاصة وساهم في مشاركات جماعية دولية ومحلية، وحاز عددا من الجوائز منها جائزة الشباب الأولى في العام 1990، والجائزة الذهبية من مهرجان الفن العراقي المعاصر 1995، ووسام تقديري من بينالي القاهرة 1999، والجائزة التقديرية بينالي بغداد العالمي الثالث 2002، والوسام الذهبي من مهرجان المحرس الدولي بتونس 2002.