العالم مُضاعف في لوحات الفنان السوري مطيع مراد

"في البحث الدائم عن السعادة".. معرض يصور أفكارا ومشاعر روحانية.
الأربعاء 2022/11/16
ألوان متداخلة ومستفزة

يوظف الفنان السوري مطيع مراد موهبته وشغفه بالأشكال الهندسية ليعبر من خلالها عن الجانب الروحاني في شخصيته وعن نظرته إلى الحياة وللقيم، وهو في آخر معرض تشكيلي له يعرض لوحات في حركة مستمرة للبحث عن السعادة، وهي سعادة تظهر جلية في اختياره للألوان والأشكال، مبتعدا عن الواقعية ومتمسكا بالمدرسة التجريدية لإيصال أفكاره.

افتتحت صالة “أيام” الكائنة في دبي يوم الرابع عشر من نوفمبر الحالي معرضا فرديا للفنان السوري مطيع مراد تحت عنوان “في البحث عن السعادة”. الفنان اختار منذ سنوات عديدة وبشكل مفاجئ أسلوب التجريد بعد أن كانت أعماله تنتمي إلى عالم الفن التعبيري وقد اعتمد حينها على ثنائية الأسود والأبيض.

ومن المعروف أن تعبير الفن التجريدي هو تعبير فضفاض جدا تسللت تحت جنحه العديد من الممارسات التي تشبه في الظاهر التجريد، ولكنها خالية من أي فيض أو أصداء خاصة بالفن التجريدي التي تجعل منه لغة تقول ذاتها عوضا عن التوجه إلى العالم الواقعي بشكل مباشر.

وتنتمي أعمال مراد من دون شك وبجدارة إلى عالم الفن التجريدي. وهو فنان أطلق بحثه في عالم التجريد ضمن سلسلة من اللوحات وضعها تحت عنوان “تجربة”، وذلك دون التخلي عن التعبيرية في توظيف الخطوط وإدخال التنوع اللوني الذي لم يكن حاضرا في أعماله السابقة إلى حد أن أصبح اللون أهم ما حضر في أعماله التي قدمها منذ عدة سنوات حتى الآن.

كانت لي الفرصة في التعرف على أعماله في صالة أيام عندما كانت لازالت موجودة في بيروت. وهو اليوم من دبي يأخذني مجددا إلى معرضه البيروتي لأنطلق منه نحو تأمل في أعماله الجديدة التي اجتمع فيها الشعور والفكر والعلم والشغف اللوني تحت عنوان لافت “في البحث الدائم عن السعادة".

◙ الظل حضر في لوحات الفنان القديمة والجديدة وهو ليس مُجرد اقتران بحضور الضوء، بل هو كيان قائم بذاته

وفي ديمومة هذا البحث، أو في “عاديته” كما يشير أيضا العنوان، يبني الفنان من خلال أعماله صيغتين فنيتين متلازمتين. الأولى وكما يذكر البيان الصحافي هي عبارة عن "معرض لوحات بألوان الأكريليك، والثانية هي تجهيز فني وتفاعلي يقدم الفرصة لزائري المعرض بالمشاركة في صناعة أبعاد الأعمال الفنية، كل حسب إدراكه ومزاجه وتأويله الشخصي".

كما يذكر البيان الصحافي تفصيلا مهما عن صياغة الفنان لنصه الفني “نص مبني على متتالية فيبوناتشي الرقمية (نسبة إلى عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي) وهي نظرية علمية تقوم على إخفاء جزئي للتفاعلات في ما بين المُضلعات والخطوط لتشكل إيهاما بالعمق".

هنا أود أن أصف تجربتي عند زيارة معرض سابق له قدمه في صالة أيام ببيروت وحمل عنوان “عتبات” لعله يقرّب لقراء هذا المقال فكرة كيف يمكن لنص فني تجريدي معاصر (علما بأنني لست من عشاق الفن التجريدي على العموم) أن يأخذك إلى "بديهيات" كاللون الوردي ليجعلك تقرأ مشاهد من حياتك وفصولا من درجات تفاعلك مع العالم الخارجي ليتوقف لشدة تأثيره عن كونه يتناول "بديهية" اللون الوردي.

أذكر، وباقتضاب شديد، أنني حين دخلت إلى المعرض اجتاحني اللون الوردي كعصف عاطفي وممنهج في الآن ذاته، أي مرتب ومنظم رغم فوضويته الظاهرية حتى كاد أن يصير لغة بحد ذاتها يخرجها إلى العلن عبر الخطوط التي راكمها وتلاعب بها الفنان لتشكل حقلا مغناطيسا لا يمكن تجاهله. ربما لأن اللون الوردي هو لوني المفضل كان من السهل أن يستطيع نصه المتنوع في عدة لوحات أن يكون نصا سرديا من عدة مقاطع تهمس بأسرار عن الحياة والوجود والموت والفرح الأرضي.

أعمال الفنان تأثرت في البداية بالفن الإسلامي ثم بفنون غربية لاحقا كفن "الأورفيزم"
◙ أعمال الفنان تأثرت في البداية بالفن الإسلامي ثم بفنون غربية لاحقا كفن "الأورفيزم"

 ولعبت مغناطسية هذه الأعمال وارتكازها على علم الخداع البصري، المبني على فكرة أن الحواس هي أدوات ضئيلة لمعرفة الحقيقة، لعبت دورا أساسيا في جعلها مؤثرة وفي جعلي أدرك أن اللون الوردي باستطاعته أن يكون هوية مُلازمة لأي محب لهذا اللون وقادرة أن تعبر عنه وعن مزاجه المتقلب، تقلب الخطوط وارتجاجها في لوحاته وهي في عز سكونها واستقامتها.

ولم تبد أعمال الفنان هذه ولا تلك التي تلت في معرض آخر ولا في معرضه الأخير “في دوام البحث عن السعادة” كنوع من استعراض لخزعبلات لونية رخيصة، مبنية على تمرس شديد، حاضرة بقوة في العديد من اللوحات المعاصرة التي تدعي أنها لوحات تجريدية وهي ليست إلا لوحات تزيينية (وشتان ما بين الاثنين) تماما لأن الفنان بدا كما يبدو اليوم، متعاطيا مع اللون، ورديا كان أو غير وردي، كوحدة روحية هي اختزال وتظهير بصري لما يصعب وصفه بالكلمات وينتمي إلى عالم الروحانيات.

صحيح أن مراد في بعض أعماله الجديدة يظهر للمُشاهد أن الفنان يقف على حافة الخطر في الانزلاق إلى حسية الأشكال والألوان مسلوخة عن قوتها الروحية، ولكن اللوحات الأخرى ناجية من ذلك التصنيف، وعسى أن تنجو أعماله اللاحقة التي سيقدمها للمُشاهد في معارض جديدة وتكون قادرة على تخطي هذا الخطر.

◙ مطيع مراد يظهر للمُشاهد أن الفنان يقف على حافة الخطر في الانزلاق إلى حسية الأشكال مسلوخة عن قوتها الروحية

ويجدر الذكر أن أعمال الفنان متأثرة بالفن الإسلامي بداية ثم تأثرت بفنون غربية لاحقا كفن “الأورفيزم” وأيضا، وكما ذكر البيان الصحافي، تأثرها بفن “السوبرماتية” التي تعتمد التناظر والتجريد الهندسي وتقنيّة الأسطح المتداعية.

لكن الفنان طور مشهده من خلال دمج عاطفي/فكري لتلك المؤثرات حتى وصل إلى نص يحمل توقيعه الخاص. مطيع مراد فنان عرف “بماذا تفكر الألوان ومن هي في حقيقتها” إذا صح التعبير، وإلا كيف لنصه هذا الزاخر بالألوان المتفجرة وخطوطه الكثيفة المتراكمة طبقات أفقية وعمودية ألا يصيبنا بالصداع، بل يتفشى بصمت من مواقع محورية غالبا ما تكون في وسط الأعمال على هيئة زوبعة منتظمة حسابية وغير مدمرة تنسل في بطئ إلى نفوسنا لتلقي الشعور بالسلام والطمأنينة؟

وحضر الظل في لوحاته القديمة والجديدة وهو ظل غير تقليدي فهو ليس مُجرد اقتران بحضور الضوء، بل هو كيان قائم بذاته. وظهر كلون ليس من هذا العالم الذي نعرفه. وغرابته تبدو وكأنها لا تزال تثير فضول الفنان وإلا لماذا تتتالى أعماله عن أحواله المُمكنة ضمن منظور لا بداية ولا نهاية واضحة له؟

ويلعب هذا الظل/اللون المستقيم المتجسد أحيانا كثيرة بالخطوط السوداء في تظهير العلاقة بين وحدتي الزمان والمكان فيستحيل عمله إلى جغرافيا مُضاعفة عن عالمنا تستدعي خواطر تتعلق بالافتراضية و”الميتافيرس” تحديدا، ولكن من منطلق إنساني/روحي بحت. ربما لأجل ذلك بدأ البيان الصحافي المرافق للمعرض بهذه الكلمات “الروح هي وجود خارج الزمن وهبة مطلقة من الله. هبة علينا أن نعي قدسيتها وأن نوغل في التمعن بكينونتها”.

14