الضفة الغربية.. تحول جيوسياسي من فلسطين إلى الإقليم

الضفة الغربية ليست مجرد أرض محتلة بل نموذج مصغّر لما يحدث في المنطقة ومختبر لمشروع إسرائيلي أوسع لا يقتصر على فلسطين بل يتمدد إقليميا ليشمل لبنان وسوريا واليمن والعراق.
الأربعاء 2025/04/23
الحديث عن حل الدولتين ترف سياسي

عندما قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إن “2025 سيكون عام فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية،” لم يكن يعبّر عن أمنية شخصية أو حلم عابر، بل كان يُعلن صراحةً عن اتجاه حكومي فعلي. كان يُبلّغ العالم أن المشروع الذي جرى التخطيط له لعقود دخل مرحلته الأخيرة. في المقابل، يستمر العالم، بسذاجة أو بتجاهل متعمّد، في الحديث عن “حل الدولتين”، ذلك الخطاب السياسي الذي أصبح عاجزًا عن ملامسة واقع معقّد وعقيم.

منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وما تبعها من مفاوضات مرهقة، استطاعت إسرائيل أن تصوغ واقعًا ميدانيًا جديدًا، يتجاوز كافة الاتفاقيات. واقعٌ فُرض بقوة السلاح والمستوطنات وببراعة استغلال الثغرات القانونية والدبلوماسية. وبينما يتحدث العالم عن “حق تقرير المصير للفلسطينيين،” تغضّ المؤسسات الدولية الطرف عن الطرف الحاسم في هذه المعادلة: إسرائيل. الدولة التي تمسك بكل الخيوط، وتتحكم فعليًا في حياة ملايين الفلسطينيين، من خلال قرارات تصدر في تل أبيب وتنفذها قواتها على الأرض.

لا يمكن التقليل من أهمية تصريحات وزراء الحكومة الإسرائيلية، فهم ليسوا مجرد سياسيين طموحين، بل هم اليد الفاعلة والمسيطرة على الأرض، وعلى الموارد، وعلى المستقبل. وما عبّر عنه الوزير الإسرائيلي آنذاك لم يكن حلمًا متطرفًا قادمًا، بل حقيقة قائمة منذ بداية العام. أحلامه الكبرى، المتطرفة، تبدو اليوم قيد التحقيق، ضاربًا بعرض الحائط أيّ حق إنساني لوجود الآخر أو لحياة الآخر.

◄ ما يحدث في الضفة، وفي محيطها، ليس مجرد سلسلة من الأحداث المعزولة، بل جزء من تحوّل جيوسياسي عميق يعيد رسم خارطة المنطقة

في الواقع، لم تعد السيادة الإسرائيلية مقتصرة على المستوطنات، بل امتدت إلى أراضٍ يُفترض أنها تقع تحت سلطة الفلسطينيين. تحديدًا، مناطق “ألف” التي بحسب اتفاقية أوسلو كان من المفترض أن تكون خاضعة للسيطرة الأمنية والإدارية الكاملة للسلطة الفلسطينية.

إلا أن إسرائيل، بطريقة متدرجة ومدروسة، قامت بإغراق الاتفاقية وسقتها للفلسطينيين على شكل قطرات، مكتفية بإبقاء السلطة قائمة لتقديم الخدمات بشكل وظيفي، بينما سلبتها فعليًا كل صلاحياتها الأمنية.

ومع هذا التآكل المستمر لدور السلطة، تتولد أسئلة حقيقية يهاب الكثير طرحها: هل تستمر السلطة الفلسطينية بهذا الشكل؟ أم أنها مرشحة للاستبدال أو التفكيك التام؟ هل تعود “الإدارة المدنية” الإسرائيلية بشكل مباشر؟ أم تُقسّم الضفة مجددًا إلى مناطق وظيفية، كما كان الحال مع “روابط القرى”، تلك الكيانات المحلية التي أنشأتها إسرائيل كبديل شكلي عن التمثيل السياسي الحقيقي؟ أو ربما، تصبح الضفة مجرد “مناطق عربية” تقع تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، دون أي اعتراف سياسي بكيان فلسطيني؟

قد تبدو هذه التصورات قاسية أو متشائمة، لكن الواقع أكثر قسوة. ومع التغيرات المتسارعة في الإقليم خلال العام ونصف العام الماضي، لم يعد هناك شيء مستبعد. فالمنطقة تُعاد صياغتها على وقع النار والخرائط، لا وفق قرارات الشرعية الدولية، أو مبادئ حقوق الإنسان، أو عدالة القضايا الأخلاقية. وهذا الواقع، وإن لم يعجبنا، علينا أن نرويه كما هو، حتى نعرف إلى أيّ “هاوية” نتّجه جميعًا. لا بد من وضع أسوأ الاحتمالات على الطاولة، لفهم مصير الملايين من الفلسطينيين، وملايين العرب المحيطين بهم، في المستقبل القريب.

الضفة الغربية اليوم ليست مجرد أراضٍ محتلة، بل أشبه بنموذج مصغّر وانعكاس لما يحدث في المنطقة. مختبرٌ لمشروع إسرائيلي أوسع، لا يقتصر على فلسطين، بل يتمدد إقليميًا ليشمل لبنان، وسوريا، واليمن، والعراق. فإسرائيل لم تعد تتحدث فقط عن أمنها المباشر، بل عن محيطها الإستراتيجي. لذلك، نراها تكثّف وجودها العسكري على الحدود مع لبنان وسوريا، توسّع الخطوط الأمنية الفاصلة، وتقوم بابتلاع تدريجي لأراضٍ في الجنوب اللبناني.

في سوريا، دمّرت إسرائيل القدرات العسكرية للنظام، وتركت القيادة الجديدة مجرد هيكل سياسي مشلول، عاجز عن الدفاع عن نفسه أو حدوده.

أما اليمن، فتُراقب إسرائيل تركيبته الهشة، وتسعى بكل الوسائل، بدعم أميركي، لتثبيت معادلة أمنية تضمن لها الحياد أو الولاء.

أما العراق – رغم هدوئه الظاهري – فيبدو بدوره مرشحًا للدخول في المعادلة، إما بتغيير سياسي جديد، أو بفرض واقع أمني مباشر.

◄ لا يمكن التقليل من أهمية تصريحات وزراء الحكومة الإسرائيلية، فهم ليسوا مجرد سياسيين طموحين، بل هم اليد الفاعلة والمسيطرة على الأرض، وعلى الموارد، وعلى المستقبل

إسرائيل، ببساطة، لا تسمح لأيّ كيان سياسي أو عسكري في جوارها القريب أو البعيد أن يمتلك أدوات قد تُشكّل تهديدًا مستقبليًا لوجودها. وهو ما يجعل كل دولة حولها هدفًا، ليس من باب الحرب فقط، بل من باب نزع السيادة وتقويض أيّ مشروع مستقل. إسرائيل لا تريد مشاريع وطنية، سياسية، قومية مناهضة لها، ولا تريد وجود أيّ “آخر” لا يعجبها.

وهنا يكمن الإشكال الأخلاقي الأعمق، فهذا الفكر الإقصائي يزيد من تعقيد المشهد، لأن الآخر الذي تُحاول إسرائيل محوه، ليس “طارئًا” على هذه الأرض، بل هو مكون أصيل منها، وله كيانه، وهويته، وحقه في الوجود، والقرار، والتعبير، وبناء المشاريع، والقيم، والسياسات.

هذا الآخر، ليس كائنًا فضائيًا، إنما هو، مثل كل إنسان، له حق في الوجود والاحترام.

ومن هنا، من قلب الجحيم، يصبح الحديث عن “حل الدولتين” اليوم نوعًا من الترف السياسي، أو العبث الكلامي. فكيف يمكن بناء دولة فلسطينية في ظل سلطة لا تحكم، وأرض تُقضم يوميًا، وشعب يعاني من الحصار والعزل والاقتلاع والتضييقات الحياتية اليومية؟ في ظل إقليم متهالك، مقضومة أراضيه وحقوقه، منتزع السيادة، منكّل بهُويته.

كيف يمكن التفاوض على مستقبل، في وقت تمّ فيه الحسم الفعلي على الأرض؟ الواقع قاسٍ، وقد لا يروق للبعض سماعه. لكنه الحقيقة التي لا بد من مواجهتها. نحتاج لقراءته كما هو، لا كما نتمنى أن يكون، لأن أيّ محاولة لتجميله أو تجاهله، هي مشاركة ضمنية في مشروع طمس الحقوق.

قد لا يكون هناك مستقبل، إن لم نطرح الأسئلة الصعبة ونواجه الإجابات الأكثر مرارة. فما يحدث في الضفة، وفي محيطها، ليس مجرد سلسلة من الأحداث المعزولة، بل جزء من تحوّل جيوسياسي عميق يعيد رسم خارطة المنطقة، ويقرّر مصير شعوبها، بصمت وبتواطؤ.

القادم معقد ومظلم، وقد لا يترك مجالًا حتى للأسئلة.

9