الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري: المبدع لا يعيش منعزلا

الكتابة في اعتقاد الشاعر المغربي، جزء من حياة صاحبها وهي مخاض وانتشاء "فالشعر عذب ولكن صاحبه في العذاب".
الأربعاء 2020/10/21
الشعر ليس شكلا بقدر ما هو خلق وكشف

تطغى على الشعر العربي اليوم سجالات شكلية وسطحية في غالبها، وهي قديمة ومتكررة تدور حول شكل الشعر ولا تنفذ إلى عمقه، وعلاوة على ذلك طغى التنظير على المنجز الشعري، ثم جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتزيد الأمر تعقيدا. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر والناقد المغربي محمد عنيبة الحمري حول الشعر وأهم قضاياه اليوم.

 سيرة الشاعر والناقد المغربي محمد عنيبة الحمري، مع القصيدة بدأت مع نشر ديوان “الحب مهزلة القرون” في مارس 1968، وهو طالب جامعي بجامعة فاس، وكان جماع مرحلة متدرجة من التجارب الشعرية في شكل نصوص نشرت بالجرائد الوطنية وفي برامج إذاعية مثل “مع الصاعدين والسائرون على الدرب”، وكان الديوان حدثا حينها.

تتالت المجاميع الشعرية للحمري فأصدر”مرثية للمصلوبين”، “داء الأحبة”، “رعشات المكان”، “سم هذا البياض”، “انكسار الأوان”، “تكتبك المحن”، وآخرها كان الأعمال الشعرية في سفرين ثم ديوان “ترتوي بنجيع القصيد” كآخر إصدار له 2019.

أن تكون شاعرا

المبدع لا يعيش منعزلا بل هو جزء من واقع لا بد أن يتأثر به وقد يؤثر فيه أحيانا
المبدع لا يعيش منعزلا بل هو جزء من واقع لا بد أن يتأثر به وقد يؤثر فيه أحيانا

يقول محمد عنيبة الحمري إن “التساؤل عن جدوى الكتابة قديم ويطرح كلما جد طارئ في عالمنا من شأنه التأثير في عاداتنا أو يمسّ بعض التقاليد السائدة، وأمام هذا المد الهائل من التقنيات والتكنولوجيا التي اكتسحت دواخلنا وغزت فضاءاتنا، فلم يعد الركون إلى القراءة العادية، بل اندمج المبدع بصفة عامة في حيز المستجدات مستفيدا من وسائلها، باعتبار الكتابة مرتبطة بالإنسان لا بالآلة”.

هكذا يقرأ الشاعر والناقد المغربي مدى حاجتنا للكتابة الشعرية وغيرها، ويعتقد في حديثه لـ”العرب”، أنه ما دام الإنسان موجودا فثمة كتابة ويكفي أن نعلم أننا في حاجة إلى الشعر، وإن قلّ قراؤه، والمقبلون عليه، أما الثورة المعلوماتية فقد أفادته في الرقن والإخراج ويسّرت سبل إبراز النص.

لا بد أن يتداخل الوجدان الداخلي وما يختلج الشاعر من هموم ورغبات وتطلعات مع واقع تتغير ملامحه وظروفه وتحدياته، باعتبار الأمر عاديا وطبيعيا، فالمبدع كما يؤكد الحمري، لا يعيش منعزلا بل هو جزء من واقع لا بد أن يتأثر به وقد يؤثر فيه أحيانا، الأمر الذي عاشه هو في التجربة الثانية “الشوق للإبحار” الصادر عام 1973 حيث كان “تحت وطأة الالتزام”، فكانت نصوصه للآخرين على عكس “الحب مهزلة القرون” الذي كان في معظمه ذاتيا وشعرا عموديا في قالبه، وتخلص فيه الشاعر من إكراهات القافية لتظل التفعيلة الركيزة الأساس.

الكتابة في اعتقاد الشاعر المغربي، جزء من حياة صاحبها وهي مخاض وانتشاء “فالشعر عذب ولكن صاحبه في العذاب” كما قال في مقطع شعري في ديوان “رعشات المكان”، وإن إبداع نص يعدّ ابتكارا لا يقيده الزمن فقد يحتاج ساعة وقد يحتاج شهورا. فالمبدع عموما يعيش واقعه وواقع مجتمعه وقد يتخيل ويخلق عوالم غريبة أحيانا، وبالتالي فالانعكاس حاضر ضمن المزيج الذي تتداخل فيه عوامل الذات والموضوع ليصبح الواقع الكوني الإنساني ماثلا، وتغدو الرؤيا الكونية أساسا، ليتخذ المبدع مكانه بقدر ما استطاع أن يكون إنتاجه معبرا عن ذلك.

قد يمثل النهل من نصوص قديمة مقدسة وغيرها من الموروث الشعبي، رافدا ثقافيا إبداعيا يغني التجربة الشعرية المعاصرة، وهنا يعتبر عنيبة الحمري، أن للروافد الثقافية من تراث وتجارب الشعراء السابقين آثارها فلا يمكن للمبدع أن يخلق من فراغ، فهو نتاج ثقافة معينة تشرّبها وأثرت في مساره. وبخصوص تجربته يقول الشاعر “لقد ساعدتني دراستي في الجامع وحفظي للقرآن قبل التحاقي بالمدرسة، على اهتمامي باللغة واستفادتي من القرآن الذي كان مرجعا لغويا مهما وقاني العديد من الأخطاء”.

"الفضاء الأزرق" يأتي ليُحدِث ارتباكا واضحا في معنى الكتابة وجدواها
"الفضاء الأزرق" يأتي ليُحدِث ارتباكا واضحا في معنى الكتابة وجدواها

هناك من لا ينْظُرُ إلى شعر محمد عنيبة الحمري، من داخِلِ التصْنيفات التي تعتبره شاعرا سبعينيّا ولا من داخِلِ التفعيلة، وبالنسبة إليه قيمة الإبداع تتجلى في ما يحدثه لدى المتلقي من أثر، فلم تكن المعادلات الرياضية وفك رموزها عملا شعريا، ولم تكن الطلاسم والمعميات أو الخطب والبلاغات التقريرية والمباشرة سبيلا للإبداع، ولا فرق أن تكون القصيدة عمودية أو تفعيلية أو قصيدة نثر، فالمهم أن تكون شعرا.

بالنسبة إلى محمد عنيبة الحمري، إما أن تكون شاعرا أو لا تكون، فالتصنيفات المرحلية لا تصمد أمام الواقع الشعري شأنها في ذلك شأن الإصدارات قلّت أو كثرت وبغض النظر عن التجايل، فهناك من شعراء الستينات والسبعينات من أنتج طابورا من الدواوين وظل “نسيا منسيا”، وهناك من شعرائنا المعاصرين من أنهى ديوانه الثامن وظلت محاولاته عبارة عن صفحات سوداء تسللت إليها الممحاة فعبثت بجنباتها يمينا وشمالا وتركت بياضا فضاء ولم تستسغ كشعر، ومعناه أن الشعر ليس شكلا بقدر ما هو خلق وكشف.

ويلفت الشاعر إلى أنها مرت فترات من تاريخنا السياسي والثقافي ساد فيها أدب الالتزام كمفهوم، وكان لا بد من الانخراط فيه تلقائيا، فقد بدا من يكتب عن الحب وفي الحب كمن يسير في اتجاه معاكس، وذلك ما جسدته بعض المقاربات النقدية التي تناولت ديوان “الحب مهزلة القرون” كدراسة الكاتب المبدع عبدالقادر الشاوي في مجلة “الثقافة الجديدة” ومقالة الشاعر أحمد هناوي “شاعر آخر دون أيديولوجية”.

الشعر المغربي بالنسبة لعنيبة الحمري، جزء من شعرنا العربي، وهو يعيش تيارات وتجارب متباينة وتجاذبات نقدية بين التقليد والتجديد، وتطغى الصراعات حول المفاهيم الشعرية وانتصار لقصيدة النثر وتبخيس للعمودي والعكس صحيح أيضا، ويبدو أن التنظير يطغى على حساب الإبداع، وهي معارك وهمية كما يبدو.

ويشدّد على أنه في كل مرحلة يحدث مثل هذا الصراع، فقد عاشت قصيدة التفعيلة في بداية نشأتها ما عانته قصيدة النثر بين مؤيد ومعارض، ويأتي “الفضاء الأزرق” ليُحدِث ارتباكا واضحا في معنى الكتابة وجدواها، حيث أتاح الفرصة للجميع بغض النظر عن المؤهلات ذلك أن لكل “مهنة” قواعد ارتكاز تبيح شيوعها، فما بالك بـ”موهبة” لا يمكن قياسها، الأمر الذي أفرز خليطا من التجارب الشعرية صعب التمييز بينها مما أباح الميدان.

وهذا لا يعني كما يقول الشاعر والناقد المغربي، مراقبة أو إقصاء، بل ملاحظة لبعض النصوص الشعرية التي ساهمت في العزوف عن قراءة الشعر نظرا لعدم تمكن منتجيها من أدوات الكتابة وأقله قواعد اللغة ومواطن وضع الهمزة دون الحديث عن الإيقاع الداخلي والصور الشعرية وغير ذلك من متطلبات العملية الشعرية.

مسار شعري

في الشعر المعاصر التنظير يفوق الإبداع
التنظير النقدي يفوق الإبداع في الشعر المعاصر​​​​​​

هناك من النقاد من يعتبر ديوانه الشّعري الجديد “ترتوي بنجيع القصيد”، تطورا في مساره الشعري على جميع المستويات الفنية والإيقاعية واللغوية وكذا الموضوع، لكن الشاعر المغربي يؤكد لـ”العرب”، أن دواوينه الشعرية الخمسة الأخيرة “رعشات المكان، سم هذا البياض، انكسار الأوان، تكتبك المحن، ثم ترتوي بنجيع القصيد”، تعد تطورا في تجربته حيث مثَّل كل ديوان مرحلة ونقلة في مساره الشعري.

ويظلّ ديوان “سم هذا البياض” مرحلة تأمل في الكتابة الشعرية لجوءا إلى استبطان الذات الشاعرة في لحظة انكتابها، يقول عنيبة الحمري، مضيفا “هو نص مسترسل وإن تخللته العناوين، أما ديوان ‘تكتبك المحن’ فيأتي متخذا من المحن ركيزة منفتحة على عوالم أخرى، أشعر وكأني أبدأ مسارا مغايرا، فإذا كانت المحن عامة مصابا وقدرا، فإن الكتابة محنتنا باختيار، هي محنة لصاحبها، وقد تكون متعة للآخرين”.

السجالات الشكلية بلا داع، فلا فرق أن تكون القصيدة عمودية أو تفعيلية أو قصيدة نثر، فالمهم  أن تكون شعرا
السجالات الشكلية بلا داع، فلا فرق أن تكون القصيدة عمودية أو تفعيلية أو قصيدة نثر، فالمهم أن تكون شعرا

وبخصوص الديوان الأخير “ترتوي بنجيع القصيد” يمكن اعتباره جزءا ثانيا لـ”تكتبك المحن”، وقد توزع إلى قسمين: “طقوس التحبير” الذي خصص لمعاناة الكتابة وما يفرض أو تفرض من طقوس بينما خصص القسم الثاني لـ”هموم التدبير”، وفيه انفتاح على العام في معاناته وما يعانيه باعتبار الشاعر كائنا مندمجا في محيطه منفعلا به وفاعلا فيه.

ومن خلال كلماته المسطرة التي خلقت عالما وجدانيا ومعرفيا عميقا وقد يكون غامضا في عدد من دواوينه ومنها انكسار الأوان، قد نتجرّأ على القول بأنه تبنى لغة ونظرة صوفية إلى العالم والناس في قوله الشعري، يجيب الشاعر محمد عنيبة الحمري، بأريحية قائلا إن اشتغل على ديوان شعري كأطروحة جامعية، لعائشة الباعونية “فيض الفضل وجمع الشمل”، وهي الشاعرة المتصوفة التي أجيزت بالإفتاء والتدريس في القاهرة في عهد المماليك البرجية، والتي كانت على صلة بالسلطان قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك.

ويؤكد أنها كانت فرصة لدخول عالم المتصوفة والتعرف على مقاماتهم وأحوالهم وعلى لغتهم التي لا يريدون أن تشيع بين عامة الناس، وانفتاح على اللغة الصوفية ومصطلحاتها والتي تجلت في ديوانه “رعشات المكان”، وإن كان استخدمها بطريقته الخاصة.

وفي الأخير يقول الشاعر المغربي “في مساري النقدي خصصت حيزا للشعراء الذين أعدموا من قبل ذوي السلطة كالخلفاء والأمراء والقضاة ولأسباب مختلفة، منها العشق وإبداء الرأي المخالف وتهمة الزندقة وغيرها، وهيأت كتابا سيصدر قريبا عنونته بـ’إعدام الشعراء’ كما انتبهت لحالات بعض الشعراء ونهاياتهم الغريبة والمفاجئة فكان كتاب ‘حين يخطئ الموت طريقه’ الموجود قيد الطبع أيضا، بالإضافة إلى سلاسل خاصة بالشعراء القتلة أيضا بعنوان ‘بقايا دم في أكف الشعراء’، والهدف من كل ذلك إعادة الاعتبار للشعراء وقد بدوا مغمورين، بدل الحرص على إبراز شعراء البلاط والمداحين ومن يسيرون في ركاب السلطة فقط”.

15